نشرت القصة فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " فندق الدانوب " سنة 1941
امرأة أحلامى
اعتدت أن أصيف كل عام عند سيدة أجنبية تقيم فى الرمل ، وكانت امرأة غربية الأطوار بادية الشذوذ ، تحيط نفسها وبيتها بجو من الهدوء المطلق، فلا تحب أن ينزل عندها أحد من المصيفين على الرغم من أنها كانت فى أشد الحاجة إلى المال ، وكان نفورها من جنس الرجال لاحد له ..
فقابلتنى فى أول الأول بمنتهى الحذر والتحفظ ثم أنست بى على ممر الأيام .. وكنت لا أرى طوال مدة إقامتى معها رجلا غيرى يدخل المنزل .. فهى تدع عند السلم الخارجى حقيبة صغيرة من القماش يلقى فيها باعة الخبز والخضار واللحم ما تحتاجه لطعامها .. فلا يراها منهم أحد ولا تراهم ..
وكانت غرفتى تطل على البحر وبعيدة عن غرفتها ، فكنت لا أراها ولا اسمع صوتها إلا نادرا .. بيد أننى كنت أسمعها تتحدث عصر كل أحد مع امرأة علمت أنها جارتها ، وأنها المرأة الوحيدة التى تزورها ..
ومرت الأيام وأنا لا أسمع إلا صوت المرأة وهى تناغى القطط ، أو تحادث نفسها .. !
وكان الهدوء الشامل الذى يخيم على البيت يحبب إلىَّ الإقامة فيه جانبا كبيرا من النهار والليل ..
فكنت أجلس فى الشرفة وأشرف على البحر، وأمتع بصرى بما يحيط بى من مناظر الطبيعة الخلابة .. وأنا لا أسمع فى أرجاء المنزل إلا دقات الساعة المعلقة فى البهو ، وهى تدق من حين إلى حين ..
وكان هذا الصمت يحملنى على التأمل ، وتوجيه نظرى إلى هذه المرأة لأعرف علة وحدتها المرة .. بيد أننى كنت كلما حاولت أن أجر لسانها إلى الكلام لعلى أعرف بعض حياتها ، وبعض سرها أرتد خائبا ..
فهى امرأة من طراز نادر فى الذكاء والحذر .. ومن اللواتى يقلن لك بأعينهن إذا ما تجاوزت معهن الحد فى الحديث إلى هنا ونفترق .. !
على أن هذا الكتمان كان له اثره السىء على أعصابها ، ووقعة المر على نفسها وجسمها ، فقد بدت عليها عوارض الشيخوخة قبل الأوان .. وثقلت عليها الوحدة فكانت تحتد وتشتد فى الكلام لأتفه الأسباب ..
وساء ظنها بالناس أجمعين ، فكانت تتصور أن خدم العمارة التى تسكنها يتآمرون على قتلها ، وأن إحدى الجارات مشتركة معهم فى تبييت الأمر وتنفيذ الجريمة .. !
وكنت أجاهد لأصرف ذهنها عن هذه الخواطر .. وأعرض عليها التنزة فترفض .. فلا تراها إلا محتبسة فى غرفتها مريضة النفس حزينة ..
لقد كان منظر هذه المرأة يبعث فى نفسى الشجن بأقصى ضروبه .. وكنت أسائل نفسى .. هل هى واحدة من اللواتى لهن ماض مروع ..؟ هل هى إحدى ضحايا الرجل .. ؟ ما معنى هذا الحزن .. وما سبب هذه الوحدة .. أليس لها أقرباء ؟ .. ما من رسالة وصلت إليها .. رسالة واحدة لم تصلها من إنسان طوال مدة وجودى فى بيتها ..
ولما رأتنى ذات يوم أكتب رسالة وأجعل العنوان بإسمها .. نظرت إلى فى أبتسام وقالت :
« إن موزع البريد لا يعرفنى .. فما حمل لى رسالة قط .. أجعل رسالتك على عنوان آخر .. »
كان صوت هذه المرأة الهادئ مشوب بمرارة تقطر حزنا ، إن قلبها يتفطر وجسمها يذوى على التدريج .. لا أنا ولا أحد من الناس يستطيع أن يفعل شيئا لأجلها الآن .. لقد خرج أمرها من يدنا .. إنها الآن تعيش لنفسها بكل ما تحمل هذه الكلمات من معان ، وحدبها على القطط لا يغير هذه الكلمات ولا يلونها بلون آخر ..
لقد اتجهت عاطفة الرحمة عندها إلى الحيوان بعد أن حرمت من الإنسان ، واتجهت اتجاها قويا فيه حنان أكيد وعطف شديد ..
لقد قمت ذات صباح من النوم فزعا على صوتها وهى تولول وتنوح .. فعلمت أن قطا من القطط قد مات .. واحداً من أبنائها .. كما كانت تنعت هذه الحيوانات دائما .. وأشهد أنى ما رأيت أحداً يبكى على ميت كما بكت هذه المرأة على قطها ..
***
جلست ذات يوم ، بعد أن تغديت ، على السرير لأستريح قليلا .. وحملت لى السيدة قدحا كبيراً من القهوة .. فأخذت أشرب وأدخن .. وكان معى كتاب من تلك الكتب القديمة النادرة الطبع التى أغرم باقتنائها ومطالعتها دائما .. إن هذه الكتب تحمل بين طياتها أسرار القرون وعبير الدهور ..
فتحت الكتاب وأخذت أطالع .. وكان باب الغرفة المؤدى إلى فسحة البيت مواربا .. فسمعت صوتا إنسانياً حلواً يرن فى البهو .. واستمر الحديث بين صاحبة البيت ، وصاحبة هذا الصوت الجديد مدة ..
وألقيت الكتاب وتسمعت .. كان صوتا جديداً يختلف عن صوت جارتها .. وانقطع الحديث وسمعت حركة أقدام تقترب من غرفتى .. لم تكن أقدام المرأة .. كان خطو هذه أسرع وأخف وأنشط ..
ووجهت عينى ناحية الباب ، ومر ظل أمام الباب الزجاجى الكثيف .. ظل امرأة طويلة القامة .. هذا هو كل ما استطعت أن أتبيته .. وكان الزجاج الكثيف ، والباب الموارب لا يسمحان لى بأن أرى أكثر من ذلك ..
ومر الظل أمام الباب أكثر من مرة .. كانت ذاهبة إلى المطبخ وعائدة منه ، وكانت تغنى فى رواحها ومجيئها بصوت أخذ بمجامع قلبى وأسر لبى ..
لم اسمع صوتا أحلى من هذا الصوت .. لم تكن تغنى بلغة أعرفها .. ولكن الصوت كان موسيقيا واضح النبرات لين المخارج ، حلو الرنين ..
وتحركت من فوق السرير ومشيت نحو الباب لأفتحه وأرى صاحبة هذا الصوت الجميل .. ولكن يدى وقفت على مقبض الباب لا تحركه .. رأيت أن هذا لا يليق .. وتبدل رأيى وتراجعت ... وملت إلى النافذة ، وأنا أرمى الجو بدخان سيجارتى .. والصوت يهفو إلى حلواً قوياً .. وبعد الصوت عن سمعى ثم أنقطع .. وأنطلقت أتمشى فى أرض الغرفة بخطى رتيبة ، مستعرضا الصور المعلقة على الجدران ..
***
عدت إلى البيت لأنام بعد منتصف الليل بقليل ، فألفيت غرفة صاحبة البيت مضاءة على غير عادة .. وسمعتها تحادث السيدة صاحبة الصوت الجميل الذى سمعته فى أصيل ذلك اليوم .. ووجدت أن يداً جديدة مرت على المنزل كله ، فغيرته ولونته بلون آخر ، وذوق آخر .. فقد رتبت الصور، وغير موقع الأثاث ، وغطى المصباح الذى فى غرفتى بالحرير الأزرق .. وفرش السرير بعناية ، وتغير كل شىء فى الغرفة ..
وشعرت عند دخولى فيها بجو أنيق ممتع .. ونمت نوما عميقا مريحا .. وأستيقظت مبكراً عسى أن أوفق إلى رؤية السيدة الجديدة .. وكنت أسائل نفسى هل هى نزيلة جديدة أم قريبة من قريباتها ..
ومرت أيام دون أن أشاهدها .. وكنت أسمع صوتها ، وحركة أقدامها ، وأرى نافذتها المفتوحة ، وغرفتها المضاءة .. هذا هو كل ما كنت أراه .. ولم أحاول غير ذلك ، وتركت لقاءها للمصادفات ، فإن الأقدار هى التى تربطنا بأناس لم يكن لقاؤهم فى الحسبان ، أو الاتصال بهم يخطر على بال إنسان ..
***
رجعت ظهر يوم إلى المنزل ، وأنا شاعر بألم فى إحدى عينى .. وكان الجو شديد الحرارة كثير الغبار ..
وأغلقت نوافذ الغرفة ، وتمددت على السرير .. وحملت إلى صاحبة البيت قليلا من الماء الساخن .. فغسلت عينى ، وأحسست ببعض الراحة ..
وسمعت المرأتين تتحدثان .. وسمعت خلال الحديث لفظة « أكسيد بوريك » فأدركت أن الحديث يتعلق بى .. وتحدثت المرأة مع البواب .. وسمعت حركة أقدام السيدة الجديدة فى البهو .. ثم مضت مسرعة إلى المطبخ .. ولمحت ثوبها وهى ماضية أمام بابى ..
ولما جاءت صاحبة البيت بمحلول البوريك .. وغسلت عينى أدركت اليد التى صنعته ووددت لو أقبلها .. وأكبرت فى هذه السيدة هذا الخلق النبيل مع إنسان لم تره ولم تعرفه ..
شغلت هذه السيدة بعد ذلك تفكيرى ووقتى وتشوقت إلى رؤيتها للغاية ..
***
وخرجت من غرفتى ذات أصيل ، واجتزت البهو وانحرفت إلى الصالة ، فوجدت صاحبة البيت جالسة على أريكة بالقرب من الباب الخارجى .. وبجوارها سيدة فى مقتبل العمر ، وروعة الحسن .. فأدركت أنها النزيلة الجديدة ..
فلما أحست بى صاحبة البيت قالت :
ـ كيف حال عينك الآن .. ؟
ـ بخير وأشكرك ..
وكانت السيدة الأخرى فى أثناء ذلك الحديث قد أطرقت .. فنظرت إليها بجانب عينى لحظة ثم أضفت :
ـ وكل ذلك بفضلك ...
فأجابتنى صاحبة البيت وهى باسمة مشيرة إلى السيدة التى بجانبها ..
ـ لقد كان هذا رأى مرغريت ..
فتحول نظرى إلى مرغريت ، وهى مطرقة .. وأخذ قلبى يزداد وجيبه ورفعت رأسها .. ورأيت وجهها الصبوح الفاتن لأول مرة ، وتشربت روحى من حسنه .. وتبادلت معها كلمات قليلة ، ووجهها فى خلال ذلك يحمر ، ويرف لونه ، ويزداد سحره ..
وأحنيت رأسى ، وخرجت إلى الطريق ، ومخيلتى تسبح فى بحر من الأحلام اللذيذة ..
***
وقدمت لى ذات صباح قدح القهوة بدل أختها .. فتقبلته شاكراً ممتنا وأخذت أحادثها .. فتوردت وجناتها .. وظهر عليها الحياء الذى بدا منها عندما قابلتها أول مرة .. وعاد إلى عينيها ذلك البريق الفاتن الذى يشاهد فى عينى العذراء قبل أن تنخرط فى البكاء ، أو تنفجر من الضحك ..
***
وخرجنا فى ليلة من الليالى لنتنزه لأول مرة .. وسرنا نحن الثلاثة على شاطئ البحر بعد أن أسدل الليل ستائره ، وأوحش الطريق ، ومضى الناس إلى منازلهم ..
وكنت أبادل مرغريت النظرات والبسمات ، وأشد على يدها خلسة ! .. وكنا نتمهل فى السير عن عمد لتتقدم « المدام ! » وشعرنا بعد مضى دقائق قليلة بأن وجودها يضايقنا ، كان هذا هو إحساسنا المشترك دون أن ننبس بنت شفة ، ولعل المدام قد شعرت بغريزتها بذلك ، فقد أشارت علينا بالعودة قبل أن يهبط البرد ، فأخذنا الطريق إلى المنزل صامتين ..
ولما حييت مرغريت تحية المساء ، وأنصرفت إلى غرفتها وأغلقت عليها بابها ، وقفت برهة أنظر إلى هذا الباب الموصد دونى .. وقلبى يزداد خفقانه ويشتد ..
واحتلت مرغريت بعد هذه الليلة مركز شعورى .. ونفذت صورتها إلى سويداء قلبى ، وكنت أراها فى كل مكان .. أنام وصورتها فى ذهنى وأصحو وصوتها يرن فى أذنى .. لقد استولت على كيانى ، وغدت امرأة أحلامى ..
***
وألفيتها ذات ليلة ساهرة تكوى بعض الملابس .. وكانت هذه هى المرة الأولى التى أشاهد فيها مرغريت وحدها ، فان عين العجوز لا تنام أبدا ! ..
وجلست أحادثها ، وأشترك معها فى عملها .. وهى تضحك وترفع المكواة الحامية فى وجهى لأبتعد وإلا وضعتها على قلبى .. !
ولما فرغت من عملها أشرت عليها بأن نجلس قليلا فى الشرفة حتى نشعر بالنوم .. فنظرت إلى غرفة أختها المظلمة لحظات .. ثم مضت معى ..
وجلسنا نتحدث فى الظلام .. وطوانا الليل فى جلبابه .. واستغرقنا فى الحديث ، وغفلنا عن كل شىء فى الوجود ..
وشعرت لأول مرة بالسعادة الحقة تهز مشاعرى وترقص قلبى .. حتى خيل إلىَّ أن لا أحد سوانا فى المنزل ، وأن أختها رقدت رقدة الأبد ..
وبعد تلك الليلة انمحت الفواصل ، وانزاحت الستر ، وتبددت الظلال التى كانت بينى وبين مرغريت .. وامتزجت روحانا .. وازداد وجدى بها حتى أصبحت لا أقوى على فراقها لحظة ..
فكنا نخرج إلى المدينة فى الصباح ، ونستريح فى البيت وقت الظهيرة .. ونتنزه فى المساء على ساحل البحر بين المندرة وسيدى بشر .. بعيداً عن الناس فإذا حان وقت النوم رجعنا إلى البيت.. وافترقنا أمام المدام .. !
ويظل كل منا ساهرا فى غرفته حتى ينطفىء النور فى غرفتها وينقطع حسها .. وهنا تفتح مرغريت باب غرفتى فى رفق وحذر شديدين .. وتهمس .. ووجهها يشرق فى الظلام :
ـ فتحى .. هل أشعل النور .. أو أهتف بالمدام .. ؟ فتحى هل أنت فى حاجة ..
فأطوقها بذراعى وأغمر فمها بقبلاتى ، ونظل نتناجى ونحلم حتى تبدو خيوط النور فى الأفق ..
***
وكان عندها مجموعة من الصور تمثلها فى مختلف أطوار حياتها .. فقدمتها لى .. وأخذت أقلب المجموعة وهى جالسة بجوارى .. فرأيت صورتها وهى طفلة صغيرة فى بودابست .. وجزيرة مرغريت ..
وسألتها :
ـ هل سميت جزيرة مرغريت بإسمك .. لأنك أجمل فتاة فى المجر ..
فضحكت وقالت :
ـ فى المجر .. فقط .. ! ؟
ـ فى العالم يا مرغريت ..
فقبلتنى فى فمى وهى طروب .. ومضيت أقلب الصور حتى استوقفتنى صورة فتاة شديدة الشبه بها ..
فسألت مرغريت عنها .. فنظرت إلىَّ ثم أطرقت وراعنى أن وجهها قد اكتأب وعلاه الوجوم .. وتحير فى عينيها الدمع .. فطويت الصور .. ورفعت وجهها إلى وجهى ..
فارتمت على صدرى وهى تنتحب .. فأخذت أمر بيدى على شعرها وأغمرها بقبلاتى .. حتى هدأت .. ثم رفعت وجهها إلى وقالت :
ـ أعرفت صاحبة الصورة .. ؟
ـ أجل يا مرغريت .. وآسف لحماقتى ..
ـ لا تقل هذا ولماذا أكتم عنك .. لقد أصبحت عندى أكثر من أخ .. أنها أختى .. لـ .. وقد انتحـ ..... أنتحرت .. كانت صغيرة .. وغريرة...... وعشـ ..... عشقت زوج أختها .. زوج المدام ..
ووضعت يدى على فم مرغريت .. بعد أن رأيت جسمها عاد يهتز ويرتجف .. ولم أكن أود أن أسمع شيئا عن هذه المأساة .. وأدركت كل شىء يتصل بهذه المرأة الغريبة ، وعرفت علة نفورها من الرجال وعزلتها المطلقة عن الناس .. أدركت كل هذا بسرعة وأخذت أحادث مرغريت فيما يصرفها عن هذه الذكرى حتى هدأت ، فخرجنا لنتنزه ..
***
ومرت الأيام سراعا ونحن فى سعادة لا تقدر .. وكنا نمضى معظم الليل فى الغرفة نتسامر ولا نحس بأن فى العالم سوانا .. وانمحى كل شىء .. فينا ونسينا مدام « ت » التى أدركت كل شىء وعرفت كل أمر وصمتت ..
كانت تعرف أن الكلام لا يجدى .. وأننا مستغرقين فى حلم لا نصحو منه أبدا .. وكانت مرغريت تدرك أيضا حال أختها .. فيعتريها سكون ووجوم ، وتطوقنى بذراعيها وهى ترتجف وتبكى ..
وشعرنا مع الأيام بنظرات المرأة تشتد وتحتد وجو البيت قد تكهرب ، وأصبح خانقا .. فكنا نمضى الساعات فى صمت ..
وقررنا ذات ليلة العودة إلى القاهرة .. لنقضى معا ما بقى لنا من عمر .. وشعرت بعد هذا القرار بالهدوء المقرون بالسعادة الحقة ..
وأخذت أرتب الحقائب ، وأعد كل شىء للرحيل .. وذهبت إلى المدينة وتركت مرغريت تهىء نفسها للسفر ..
وعدت إلى المنزل فى ساعة متأخرة من الليل وأنا سعيد حالم .. وحاولت النوم فلم أستطع فقد طيرت السعادة النوم من عينى .. فرأيت أن اذهب إلى غرفة مرغريت .. وأوقظها لنقضى ما بقى من الليل معا ..
ونهضت من الفراش .. وفتحت باب غرفتى وتقدمت ، على أطراف أصابعى فى الردهة .. حتى قربت من باب غرفتها ، وهنا وصل إلى سمعى صوت بكاء مختنق .. وصوت مرغريت وهى تتحدث بصوت خافت ، فأدركت أن أختها معها فى الغرفة .. وساورنى القلق وأنصت .. فإذا بالحديث يخصنى فوقفت فى وسط البهو ذاهلا شاردا .. وأنا لا أسمع إلا بكاء المرأة المختنق وصوت مرغريت وهى تهدئها بصوت خافت ثم سمعتها تبكى معها .. فأحسست بقلبى يتفطر لوعة وأسى ..
وسمعت المرأة تقول لأختها وهى تنشج ..
ـ لا تتركينى وحدى .. بعد كل الذى حدث .. لقد وجدتك أخيرا .. وأصبحت وما لى فى الوجود سواك .. فلا تتركينى وتذهبى معه ..
وارتفع النحيب .. وتكرر الرجاء .. وأنقطع الصوت .. وخيم صمت القبور ..
وتحاملت على نفسى حتى بلغت غرفتى .. وتمددت على السرير وجسمى يحترق ورأسى يشتغل والعرق يتصبب على جبينى .. وعيناى فى وقدة الجمر .. وأطرافى تتقلص .. والسيجارة تنتفض بين أناملى .. والأفكار تموج فى رأسى وتتصارع ..
لقد من اللّه على بالسعادة بعد شقاء طويل فهل أرفضها فى سبيل امرأة فى عداد الموتى .. حية كميتة لا فائدة من وجودها ، ولا خير يرجى منها ، لقد انقطعت صلتها بالحياة وصلتها بالناس ، وتقطعت بها الأسباب ..
فما ذنب هذه المسكينة وهى فى نضرة عمرها .. ورونق صباها حتى تشقى مع هذه المرأة الشقية إلى الأبد .. هل إذا انتزعتها منها سأنتزع نفسها .. هل أذهب بحياتها .. ولماذا لا أذهب بحياة من لا يصلح للحياة ولا تصلح له .. وقفت عند هذا الخاطر العاصف أترنح .. وهل يمكن أن نظل سعيدين بعد هذه المرأة .. أنها ثالث لا ينفصل عنا ولا يتجزأ .. إنها فى حياتها ومماتها .. شئنا ذلك أو لم نشأ ..
وانطلقت أتمشى فى أرض الغرفة بخطى سريعة كالنمر المحبوس فى عرينه .. والأفكار تشتعل فى جمجمتى وتعصف ، حتى شعرت بمثل الحمى تسرى فى عروقى وبحلقى يجف .. فاتجهت من غير وعى إلى المطبخ لأشرب..
ووقع بصرى وأنا أدير صنبور الثلاجة على بلطة معلقة فى الحائط .. رباه .. هلى أمسك ببلطة رازكو لنيكوف(*) وأحطم هذه الجمجمة .. وأمسكت بالبلطة .. ! فأحسست بثقلها وأخذت يدى ترتعش ، وجسمى يهتز والعرق يتفصد .. رحماك يا سيد الكتاب ليس بين أعقل الناس وبين الجريمة غير قيد شعرة .. !
هل أقتل هذه المرأة ، وأقتل مرغريت ، وأقتل نفسى .. وتفتحت عيناى فى رعب وجزع .. واشتد الظلام ولم أعد أرى شيئا ..
ووجدت نفسى ممددا على فراشى والعرق يتصبب .. فاستويت على قدمى ، تحت ثورة الحمى ، وأمسكت بحقيبتى .. وخرجت أضرب فى ظلام الليل على غير هدى ولا سبيل ..
=======================================
(*) بطل الجريمة والعقاب لدستوفسكى .
===============================
نشرت القصة فى مجموعة " فندق الدانوب " لمحمود البدوى سنة 1941 " وأعيد نشرها بمجموعة " قصص من الإسكندية " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2002
================================
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق