سائق القطار
ـ تشرب ..؟
ـ لا .. وأشكرك ..
فانحنى مساعد السائق ، ووضع القلة الفخارية المفحمة فى ركن من القاطرة ، وانتصب وهو يمسح بيده الماء السائل من جانبى فمه ، وتحول إلى النافذة وقال بعد أن لمح نور إحدى القرى :
ـ الفكرية ..؟
ـ آه ... ...
ـ ... ... ...
ـ فحم ... ...
ففتح المساعد باب الفرن المستدير ، ورمق النار وهى تتضرم وتلتهب ، وطالعه وهجها وسعيره ، فارتد عنها وأمسك بمجراف الفحم ، وقوس ظهره وغيب طرف المجراف فى المخزن .. ثم استدار وتقدم خطوة وعينه على الباب .. ورمى النار بالوقود .. فخمدت جذوتها وتلوت ودخنت .. ثم شبت وامتدت السنتها على الحديد والتصقت بجدران الفرن .. ودارت على جوانبها وسقفها .. وزادها تيار الهواء ضراما وسعيرا ..
ورمى المساعد النار بمجراف آخر ، ثم راقبها لحظة ، وكأنه شعر بحاجتها إلى المزيد فرماها بمجرافين معًا ، وضم الباب بيده ، ونصب قامته ويده على مقبض المجراف ، وطرف كمه الممزق يمسح العرق المتصبب الملوث بغبار الفحم وقطرات الزيت ، ونزلت يده على جنبه وتنفس ، وقال فى صوت هادئ تشوبه بعض المرارة :
ـ كل شيء تغير فى هذه الدنيا بعد الحرب .. حتى الفحم ..
فسأل السائق ، وعينه على الطريق ، وظهره إلى مساعده :
ـ لماذا ..؟
فقال المساعد فى حماسة غير منتظرة ، وهو ثرثار ضامر ناحل الجسم معروق :
ـ كان الفحم قوالب ضخمة .. كارديف .. وكان القالب الواحد يسير قاطرة بأسرها .. كنا ننزل القالب فى حوض الورشة ونضربه ضربتين على يافوخه ، ومثلها على جنبه ، فيتهشم ويتناثر ، فننضحه بالماء ، وندفع منه المجرافين أو الثلاثة فى النار وننام على حسه ..!! أما الآن فهذا الفحم كعيدان الذرة لا خير فيه ..
فتحول إليه السائق بجانب وجهه ، وبصره لا يزال عالقًا بالقضيب ، وقال باسما فى خبث :
ـ تعبت ..؟!
ـ تعبت ..!! لا يزال نور المنيا باديا .. رحم الله أيام الشباب كنا نعمل فى الورشة أكثر من عشر ساعات وقوفا على الأقدام ولا نفكر حتى فى الطعام .. كان أحسن الله إليه ..
وحبس سيل الكلام بعد ان بصر بالسائق يتراجع إلى الوراء ويرقب البخار .. وسأله :
ـ 59 ..؟
ـ 8 ..
ثم نسى ما كان فيه من حديث وأمسك " بالأسطبة " وأخذ يلمع جوانب الفرن وعجز الآلة الضخمة ، ويزيل الزيت اللاصق بالحديد والنحاس ، والأنابيب الصفراء الملتوية والمعدنية الدقيقة ، ولما وصل إلى محبس البخار بدا له أن ينفس عنه قليلا ففعل .. وهب البخار القوى من بوق القاطرة وهو يئز وينش ، وطار مع التيار ، ولما قفل المساعد المحبس ثانية ، رضت أصابعه بعض المفاتيح الصغيرة ، فعبس وكشر ، وصمت محنقا ، وكان صمته منتهى ما يرجوه السائق ..!
وكان السائق واقفا عند نافذة القطار الزجاجية الصغيرة يرقب الطريق ، وهو يدخن ، وكان يتحول عن موقفه من حين إلى حين ليلمح الساعة وضاغط الهواء ، ودرجة البخار ومقياس الطريق ، ثم يعود إلى مكانه عند النافذة ، ويده فى سرواله الأزرق ، وسترته تنحسر عن صدره العريض القوى البارز ، وعلى كتفه وفى طرف كمه الزيت الملوث بالفحم المنضوح .
وكان فى وقفته ساكن الملامح هادئ النفس ، ثابت الجوارح ، راسخ القدم ، فعل الواثق من نفسه وعمله ، وكان لصلابة عضلاته ووثاقة تركيبه وقوة أعصابه أثر واضح فى ذلك ..
أما المساعد فقد مال بظهره على ركن القاطرة تحت مخزن الفحم ، بعد أن أشعل سيجارة من جمرة جذبها من الفرن ، وانطلق يدفع الدخان ويفكر ، ونظره لا يتحول عن السائق الواقف أمامه فى حلته الزرقاء ..
ولما مد السائق رجلا وثنى الأخرى وعينه مستقرة على الطريق ، انتصب المساعد وحدجه بطرفه ، وتحول إلى ظله الجارى على الأرض ، وأنعم فيه النظر فى سكون حتى بصر به ينسحب بعد لحظات ، فرفع وجهه ، وكان السائق قد انحنى عليه وفى فمه سيجارة جديدة فأخرج المساعد سيجارته من فمه وناولها إياه ، وقد تلاقت أعين الرجلين واختلطت أنفاسهما ، ونظر المساعد فى حدة إلى عينى صاحبه العميقتين السوداوين ذواتى البريق العجيب ، وإلى ملامح وجهه المعبرة القوية الساكنة ، وجبهته العريضة البارزة ووجهه الأبيض المستطيل .. وأحس بتضعضعه وخوره أمام قوة صاحبه وغلبته .. شعر أمام السائق بالعجز والضعف والونى ، فتحسر وتقبض ، ولما ارتد السائق إلى مكانه من النافذة أخذ المساعد يتفرس فيه ، ويقارن بين جسمه القوى المصوب ، وبين نفسه ، وهو الناحل الضامر المعروق ، وفتق هذا التأمل المستكن ذهنه حتى أخذ يستعرض فى مخيلته عمل كل منهما ، وشغله هذا التفكير حتى نسى أن ينفض عن السيجارة رمادها ، أو يمحو عن فمه ما ارتسم عليه من أسى مشوب بالحقد والحسد .. وانطلق يحدث نفسه :
ـ ما الذى يفعله هذا السائق .. يحرك القطار فى المحطة ثم يتركه بعد ذلك للأقدار .. ويمضى معظم الليل واضعا يده فى جيوبه يدخن .. ويتلهى بالنظر إلى الطريق ، وكل ما يعمله هو مراقبة عقرب الساعة ومقياس البخار والضغط والطريق .. وبعض الأحيان يتواضع ويمسح ما على الساعة من غشاوة ..!! ثم بعد هذا كله يلقى الأوامر .. غذ النار .. ند الفحم .. زيت الآلات .. أما أنا فأظل الليل طوله واقفا على باب جهنم أضرمها وأغذيها وأصلى بنارها ، وأمسح ما على الحديد من غبار وفحم وزيت ، حتى يلمع ويصقل ، وجسمى عليه ضعف قاذوراته .. وإذا وقف القطار فى المحطة نزلت تحت العجلات وانبطحت على الأرض لأزيت العدد الصغيرة والدوافع والجواذب ، وأمسح معدن الذراع ، فحتى هذا يجب أن يكون لامعا ..! وإذا ملأنا مخزن الماء طوقت الخرطوم بذراعى ، ودفعته عن الخزان بجسمى فيصيبنى هاطله ، ويزيدنى بلاء على بلائي .. هذا هو عملى وعمله ، ومع هذا فأجره ضعف أجرى ويزيد ، وأوقات فراغى وراحتى ليست كأوقات فراغه وراحته .. وامرأته عاقر وامرأتى تجئ فى كل عام بمولود سعيد ..! وأولادى من فرط الطوى ضامرون مهزولون يترقبون الصيب من السماء ليربوا ويكتنزوا ويملأوا البطون بالطعام ، والسماء لا تجيب ..! وهو فارع قوى مفتول يفور جسمه بحرارة الشباب ، وأنا قمئ ناحل معروق تقوست قناتى ، وشابت شياتى ، وأضحت جلدتى .. تتخدد .. والحياة تقبل عليه بوجهها وتدبر عنى .. ومن يدرى ..؟ ربما كان لقوته وسطوته سبب فى ذلك ، فما تحط الحياة إلا على أمثالنا من الضعاف المرضى المناكيد ، وما كنا مناكيد إلا لأننا مرضى ، ولو كنا أقوياء مثله لخافت بأسنا ، واتقت شرنا ، وأحنت لنا الرأس فسرنا فى مسالكها شامخين ..
ـ فحم ..
فاستفاق المساعد من خواطره على صوت السائق الرنان ، وفتح باب الفرن ، وأقبل على النار يغذيها بالوقود ، وهو صامت صابر ..
***
عندما جاز القطار محطة ملوى كان الليل قد انتصف واعتدل الجو ، وهب النسيم العليل من جنبات الوادى الخصيب ، فأثر هذا الجو الرخى المنعش على خواطر المساعد ، فخفف حسده على صاحبه وزالت نقمته عليه ، ووقف ينصت لدوى القطار وهو ينهب الأرض ويطوى القرى والدساكر .. وقد خيم عليها النخيل وطواها الظلام فى جوفه حتى بدت صامتة موحشة رهيبة ، ثم بارح مكانه وأخذ يجرف بعض الفحم من المخزن ويهيئه على عتبته للنار ، وبعد أن فرغ من ذلك أشعل سيجارة ونظر إلى السائق وود لو يحادثه ، يثرثر معه فى أى موضوع ، ويتكلم عن أى شيء ، دون أن يكون لكلامه وقع أو غرض أو غاية ، فما كان يعنيه هذا ، وإنما حسبه أن يتكلم لأن الصمت يمله ويضجره ، ويأخذ بمخنقه ويثير أعصابه ..
وفتح فمه ثم أطبقه ، وكان يعرف أن السائق قليل الكلام طويل الصمت .. وتنحنح وسعل وأطل من النافذة فطن فى أذنيه التيار الشديد ، وسفى فى وجهه الغبار وجرى عليه دخان الفحم ، وسمع صفير قطار من بعيد ، فبقى فى مكانه ليحيى سائقه إن أمكن ..! ومر قطار البضاعة يجلجل على القضبان ..
فقال المساعد وكأنما انبعث صوته من أعماق هاوية سحيقة :
ـ 367 ..؟
ـ نعم ..
ـ من الأقصر ..؟
ـ آه .. وخزن فى أسيوط ..
ـ توفيق شاكر ..؟
فهز السائق رأسه موافقًا ، وصمت المساعد لحظة كأنما يستعرض فى ذهنه صورًا باهتة يحاول بروزها ووضوحها ، وغير من نبرات صوته وهو يقول :
ـ كان سائقاً للقطار 72 .. أنزلوه .. بعض الأحيان تتحكم الأقدار ..
فلم يقل السائق شيئًا وأخذ يتمثل فى مخيلته صورة حادث توفيق كما سمعه من رفاقه .. ثم وضع يده على جبينه يتفرس فى الطريق ، يستشف الحجب ، ما وراء الغيب ، ما فى بطن الأقدار ..
فقال المساعد وقد طاب له أن يجد ما يتحدث فيه :
ـ كان خارجًا من ورشة سوهاج .. ليوصل القطار إلى الأقصر كانت السرعة أكثر من اللازم ، وكان العامل يتخطى القضبان .. توفيق نفسه لا يدرى كيف مات الرجل .. شهد عليه عامل " البلوك " واثنان من الخفراء ..
فقال السائق وقد حز فى نفسه الأسى على صاحبه :
ـ سئ الحظ .. وكان عليه أن يحاذر ..
فقال المساعد بصوت وان :
ـ يولد كثير من الناس ليموتوا تحت العجلات .. فما الذى يدفعه الحذر ، والسائق ، والكشاف ونور الكشاف ..؟ مرت على المرء كثير من الحوادث العجيبة التى تبعث على الدهشة والتفكير العميق ..
كنا قد بعدنا عن ديروط وفلاح مسكين ، على جمله ، ينتظر مرور القطار ، ومر القطار وفزع الجمل ، ورمى الرجل تحت العجلات .. قد يكون مر على هذا الجمل مائة قطار وهو ساكن ثابت ، ولكنه جفل فى هذه المرة لسبب لا نفهمه ..
فقال السائق وقد بدت على وجهه البشاشة :
ـ ولكن إذا كان الفـلاح قد رد الجمـل عن حديد الممر وبعد به عن الشريط أكان يموت ..؟
ـ كان لا يستطيع فى تلك الساعة أن يفعل ذلك .. كان لابد أن يموت فمات ..
ومر القطار على حقل كبير من القطن وقد تفتح ونور ، فتحول المساعد إلى الحقل ، وراقب السائق مقياس الطريق لحظات ، ثم أدار المحرك إلى اليسار قليلاً ، فقد بدأ الوادى ينحنى والشريط يدور ، وكان يعرف هذه الطريق أكثر من موضع أنفه من وجهه ، وهدأت حركة الآلآت نوعًا ، ثم أرجع المحرك إلى مكانه بعد ثوان ، وارتد عن النافذة ووقف أمام الفرن ، وطرفه على الساعة والمقياس ، واستمر هكذا مدة ، ثم أدار المحرك إلى اليسار مرة أخرى فى شدة حتى تعدى الكثير من الدرجات ، فقد وصل القطار إلى طريق مرمم واهن لا تزال تجرى عليه أيدى العمال فى النهار .. ودار بخلده أن أحد العمال قد يكون ترك سهوا بعض الأدوات الحديدية على الشريط ، فمد بصره إلى نهاية نور الكشاف ، وثبت نظره على حديد القضبان .. وفكر فى نفسه أنه بعد نصف ساعة وستمائة ثانية سيدخل محطة أسيوط ، وسره هذا كما سره خروجه منتصرًا من الطريق المرمم .. وبعد أن لمح المقياس أدار المحرك بالتدريج إلى اليمين ، إلى نهاية ما تتحمله أرض النيل السعيد ..! وكان يود أن يعوض بتلك السرعة الجارفة ما قضاه وهو سائر ببطء على الطريق الواهن .. وانطلق القطار كالسهم يطوى القرى ويزلزل تحته الأرض ..
وقال المساعد :
ـ النيل عال .. وشديد ..
فقال السائق وقد تحول بوجهه إلى النيل فرأى بعض المراكب الشراعية تسير مغالبة التيار :
ـ أتخاف أن تتقطع الجسور ..؟
ـ لا .. جسور القطارات هى آخر ما يصيبه الأذى دائمًا ..
وبقى نظر السائق ثابتًا على النيل ، وقد راقه هول الليل عند الأفق البعيد ..
وأطل المساعد من النافذة وبصره على الأرض الجارية .. وخيم صمت عميق ..
وقال المساعد بعد دقائق بصوت يرتعش :
ـ رجل ..!
ـ ماذا ..؟
ـ رجل تحت .. ال ..
فتلفت السائق فى سرعة البرق حيث أشار مساعده فرأى شبه شبح يضطرب فى غمرة الليل .. فصفر وألقى الشبكة وأدار المحرك إلى اليسار فى حذر شديد .. وكان قد فوجئ بالأمر فاضطرب جسمه قليلاً وجاشت نفسه .. ثم حبس البخار .. وأحس بعد مدة بضغط الفرامل وجلجلة العدد .. وقد أجبرت على البطء على غير انتظار .. ووقف وروحه تثور .. ونفسه حانقة ساخطة .. كان يود أن يدخل محطة أسيوط فى الساعة الواحدة والدقيقة الرابعة والعشرين .. منذ خمس سنوات لم يتأخر فى حياته مرة .. مرة واحدة .. كان دائما يحاذى الرصيف وعقرب الثوانى على الستين .. كم كان يشعر بالفخر والزهو والشموخ والتعالى على الإخوان ، كم كان يشعر بالزهو والفخر وهو المعروف بأنه المسيطر على الحديد والنار .. كان إذا تأخر فى أثناء الطريق يغذى النار ويدفع البخار ويجهد العدد ليدخل المحطة فى ميعاده .. ولكنه الآن سيتأخر .. لأول مرة فى حياته كسائق سيتأخر .. سيتأخر .. لا دقيقة ولا دقيقتين ولا ثلاثًا .. بل أكثر من ذلك ، شعر بنفسه تذوب حسرات .. أحس بالآلات تئن وتتوجع وتدق كالطبول .. كانت ضربات الضاغط والدوافع وسحبات الذراع ورجعات " البستون" .. تدوى فى أذنيه كالطاحون البالية ، كالمدافع المنطلقة على غير هدى فى وادى التيه .. أحس بدمه يفور .. وروحه تثور .. حتى عقدت جبينه السحب .. ولكن يده القوية كانت لا تزال على المحرك ، والقطار يحبس نفسه ويغالب قوة دفعه .. أى مأفون هذا الرجل الذى عبر الشريط هكذا وألقى بنفسه إلى التهلكة ..؟ وتصور الرجل وقد تمزق وطارت أشلاؤه .. وطحنته العجلات .. وجرى دمه مع الزيت .. فتفطر قلبه على الرجل المسكين .. ووقف تتملكه أعصابه الحديدية صامتًا .. حتى أحس بعد مدة بالآلات تجلجل وتطبل .. والبخار ينش ويئز .. والذراع يغلب ويجاهد .. ويطوح بنفسه فى ثقل ثم يدركه الونى فيحتضر ..
ونزل السائق ودار حول مقدمة القاطرة ، ثم انحنى ودخل تحتها يفحص العدد الصغيرة والآلات المحركة ، وخرج بعد دقائق ووجهه ينضح عرقاً ، وعلى معارف وجهه الساكنة آيات الهدوء المطلق ، ورآه مساعده وهو يستقيم بظهره القوى عن العجلات الأمامية ، ثم يتراجع خطوتين إلى الوراء ويتقدم تجاهه ، وهو يضرب بقدميه الزلط الملقى بجانب الشريط ، وكان لصوت قدميه دوى مسموع فى الليل الساكن .. وتوقف المساعد عن مسح عمود الذراع وقبض براحته على " الأسطبة " الملوثة بالزيت القذر ، وقال وهو يميل بوجهه إلى حيث صاحبه :
ـ لاشيء ..؟
ـ لا شيء فى العجلات الأمامية ، وإنما أثر الدم واضح فى التروس الخلفية التى أخذ عندها الرجل ، على أن العدد سليمة ولا أثر للحم ولا عظام ..
فصمت المساعد كأنه يفكر .. ثم استأنف عمله وكان المشعل الصغير الذى فى يسراه ينتفض ويخبو ويشتعل ، ويميل لسان اللهب يمنة ويسرة تبعًا لهبات الرياح .. وكان الزيت قد امتزج بعرقه الهاطل وسال من يده على ساعده ، ولوث الكثير من جسمه ، فمسح الزيت فى سرواله ، بعد أن رمى الأسطبة على الأرض ، ودارت يده حول ذقنه ورفع المشعل إلى ما فوق رأسه ، واستدار ومد بصره ، وكان الكثير من الركاب يطلون من النوافذ ، ووجوههم إلى الخلف ، وظلهم للواقف منهم على الأبواب واضح على الأرض ، وعامل العربة الخلفية يتحدث مع " الكمسارى " وحولهما بعض الناس ..
واعتمد السائق على حديد النافذة وأخذ يدخن ونظره مسدد إلى الوراء حتى رأى عامل الإشارة يلوح برأيته ، فقال لمساعده :
ـ اطلع ..
فطلع المساعد إلى القاطرة ، ووضع المزيتة جانبًا ، وبعد السائق عن النافذة الخلفية ووقف أمام الآلة يحدق فى الساعة ثم مد يده وأدار المحرك إلى اليمين قليلاً فتحركت العجلات الأربع الأمامية الصغيرة فى بطء وثقل شديد ، ودارت العجلات الأربع الكبيرة التى خلفها على الفارغ ، ارتفعت عن القضبان ودارت على الفارغ فى سرعة وجنون .. وزفر القطار ، وأز البخار ونش ، وشال الذراع وحط ، وتحركت العجلات الأمامية ، ولامست العجلات التى خلفها القضبان ، وشال الذراع وحط وتقدم القطار وهو يئن ويتوجع وينوح ، وتقدم القطار فى بطء وحزن من غير صفير ..!
==========================
نشرت القصة فى مجلة الرسالة بالعدد 178 بتاريخ 30/11/1936 وأعيد نشرها فى كتاب " فندق الدانوب " سنة 1941
=========================
ـ تشرب ..؟
ـ لا .. وأشكرك ..
فانحنى مساعد السائق ، ووضع القلة الفخارية المفحمة فى ركن من القاطرة ، وانتصب وهو يمسح بيده الماء السائل من جانبى فمه ، وتحول إلى النافذة وقال بعد أن لمح نور إحدى القرى :
ـ الفكرية ..؟
ـ آه ... ...
ـ ... ... ...
ـ فحم ... ...
ففتح المساعد باب الفرن المستدير ، ورمق النار وهى تتضرم وتلتهب ، وطالعه وهجها وسعيره ، فارتد عنها وأمسك بمجراف الفحم ، وقوس ظهره وغيب طرف المجراف فى المخزن .. ثم استدار وتقدم خطوة وعينه على الباب .. ورمى النار بالوقود .. فخمدت جذوتها وتلوت ودخنت .. ثم شبت وامتدت السنتها على الحديد والتصقت بجدران الفرن .. ودارت على جوانبها وسقفها .. وزادها تيار الهواء ضراما وسعيرا ..
ورمى المساعد النار بمجراف آخر ، ثم راقبها لحظة ، وكأنه شعر بحاجتها إلى المزيد فرماها بمجرافين معًا ، وضم الباب بيده ، ونصب قامته ويده على مقبض المجراف ، وطرف كمه الممزق يمسح العرق المتصبب الملوث بغبار الفحم وقطرات الزيت ، ونزلت يده على جنبه وتنفس ، وقال فى صوت هادئ تشوبه بعض المرارة :
ـ كل شيء تغير فى هذه الدنيا بعد الحرب .. حتى الفحم ..
فسأل السائق ، وعينه على الطريق ، وظهره إلى مساعده :
ـ لماذا ..؟
فقال المساعد فى حماسة غير منتظرة ، وهو ثرثار ضامر ناحل الجسم معروق :
ـ كان الفحم قوالب ضخمة .. كارديف .. وكان القالب الواحد يسير قاطرة بأسرها .. كنا ننزل القالب فى حوض الورشة ونضربه ضربتين على يافوخه ، ومثلها على جنبه ، فيتهشم ويتناثر ، فننضحه بالماء ، وندفع منه المجرافين أو الثلاثة فى النار وننام على حسه ..!! أما الآن فهذا الفحم كعيدان الذرة لا خير فيه ..
فتحول إليه السائق بجانب وجهه ، وبصره لا يزال عالقًا بالقضيب ، وقال باسما فى خبث :
ـ تعبت ..؟!
ـ تعبت ..!! لا يزال نور المنيا باديا .. رحم الله أيام الشباب كنا نعمل فى الورشة أكثر من عشر ساعات وقوفا على الأقدام ولا نفكر حتى فى الطعام .. كان أحسن الله إليه ..
وحبس سيل الكلام بعد ان بصر بالسائق يتراجع إلى الوراء ويرقب البخار .. وسأله :
ـ 59 ..؟
ـ 8 ..
ثم نسى ما كان فيه من حديث وأمسك " بالأسطبة " وأخذ يلمع جوانب الفرن وعجز الآلة الضخمة ، ويزيل الزيت اللاصق بالحديد والنحاس ، والأنابيب الصفراء الملتوية والمعدنية الدقيقة ، ولما وصل إلى محبس البخار بدا له أن ينفس عنه قليلا ففعل .. وهب البخار القوى من بوق القاطرة وهو يئز وينش ، وطار مع التيار ، ولما قفل المساعد المحبس ثانية ، رضت أصابعه بعض المفاتيح الصغيرة ، فعبس وكشر ، وصمت محنقا ، وكان صمته منتهى ما يرجوه السائق ..!
وكان السائق واقفا عند نافذة القطار الزجاجية الصغيرة يرقب الطريق ، وهو يدخن ، وكان يتحول عن موقفه من حين إلى حين ليلمح الساعة وضاغط الهواء ، ودرجة البخار ومقياس الطريق ، ثم يعود إلى مكانه عند النافذة ، ويده فى سرواله الأزرق ، وسترته تنحسر عن صدره العريض القوى البارز ، وعلى كتفه وفى طرف كمه الزيت الملوث بالفحم المنضوح .
وكان فى وقفته ساكن الملامح هادئ النفس ، ثابت الجوارح ، راسخ القدم ، فعل الواثق من نفسه وعمله ، وكان لصلابة عضلاته ووثاقة تركيبه وقوة أعصابه أثر واضح فى ذلك ..
أما المساعد فقد مال بظهره على ركن القاطرة تحت مخزن الفحم ، بعد أن أشعل سيجارة من جمرة جذبها من الفرن ، وانطلق يدفع الدخان ويفكر ، ونظره لا يتحول عن السائق الواقف أمامه فى حلته الزرقاء ..
ولما مد السائق رجلا وثنى الأخرى وعينه مستقرة على الطريق ، انتصب المساعد وحدجه بطرفه ، وتحول إلى ظله الجارى على الأرض ، وأنعم فيه النظر فى سكون حتى بصر به ينسحب بعد لحظات ، فرفع وجهه ، وكان السائق قد انحنى عليه وفى فمه سيجارة جديدة فأخرج المساعد سيجارته من فمه وناولها إياه ، وقد تلاقت أعين الرجلين واختلطت أنفاسهما ، ونظر المساعد فى حدة إلى عينى صاحبه العميقتين السوداوين ذواتى البريق العجيب ، وإلى ملامح وجهه المعبرة القوية الساكنة ، وجبهته العريضة البارزة ووجهه الأبيض المستطيل .. وأحس بتضعضعه وخوره أمام قوة صاحبه وغلبته .. شعر أمام السائق بالعجز والضعف والونى ، فتحسر وتقبض ، ولما ارتد السائق إلى مكانه من النافذة أخذ المساعد يتفرس فيه ، ويقارن بين جسمه القوى المصوب ، وبين نفسه ، وهو الناحل الضامر المعروق ، وفتق هذا التأمل المستكن ذهنه حتى أخذ يستعرض فى مخيلته عمل كل منهما ، وشغله هذا التفكير حتى نسى أن ينفض عن السيجارة رمادها ، أو يمحو عن فمه ما ارتسم عليه من أسى مشوب بالحقد والحسد .. وانطلق يحدث نفسه :
ـ ما الذى يفعله هذا السائق .. يحرك القطار فى المحطة ثم يتركه بعد ذلك للأقدار .. ويمضى معظم الليل واضعا يده فى جيوبه يدخن .. ويتلهى بالنظر إلى الطريق ، وكل ما يعمله هو مراقبة عقرب الساعة ومقياس البخار والضغط والطريق .. وبعض الأحيان يتواضع ويمسح ما على الساعة من غشاوة ..!! ثم بعد هذا كله يلقى الأوامر .. غذ النار .. ند الفحم .. زيت الآلات .. أما أنا فأظل الليل طوله واقفا على باب جهنم أضرمها وأغذيها وأصلى بنارها ، وأمسح ما على الحديد من غبار وفحم وزيت ، حتى يلمع ويصقل ، وجسمى عليه ضعف قاذوراته .. وإذا وقف القطار فى المحطة نزلت تحت العجلات وانبطحت على الأرض لأزيت العدد الصغيرة والدوافع والجواذب ، وأمسح معدن الذراع ، فحتى هذا يجب أن يكون لامعا ..! وإذا ملأنا مخزن الماء طوقت الخرطوم بذراعى ، ودفعته عن الخزان بجسمى فيصيبنى هاطله ، ويزيدنى بلاء على بلائي .. هذا هو عملى وعمله ، ومع هذا فأجره ضعف أجرى ويزيد ، وأوقات فراغى وراحتى ليست كأوقات فراغه وراحته .. وامرأته عاقر وامرأتى تجئ فى كل عام بمولود سعيد ..! وأولادى من فرط الطوى ضامرون مهزولون يترقبون الصيب من السماء ليربوا ويكتنزوا ويملأوا البطون بالطعام ، والسماء لا تجيب ..! وهو فارع قوى مفتول يفور جسمه بحرارة الشباب ، وأنا قمئ ناحل معروق تقوست قناتى ، وشابت شياتى ، وأضحت جلدتى .. تتخدد .. والحياة تقبل عليه بوجهها وتدبر عنى .. ومن يدرى ..؟ ربما كان لقوته وسطوته سبب فى ذلك ، فما تحط الحياة إلا على أمثالنا من الضعاف المرضى المناكيد ، وما كنا مناكيد إلا لأننا مرضى ، ولو كنا أقوياء مثله لخافت بأسنا ، واتقت شرنا ، وأحنت لنا الرأس فسرنا فى مسالكها شامخين ..
ـ فحم ..
فاستفاق المساعد من خواطره على صوت السائق الرنان ، وفتح باب الفرن ، وأقبل على النار يغذيها بالوقود ، وهو صامت صابر ..
***
عندما جاز القطار محطة ملوى كان الليل قد انتصف واعتدل الجو ، وهب النسيم العليل من جنبات الوادى الخصيب ، فأثر هذا الجو الرخى المنعش على خواطر المساعد ، فخفف حسده على صاحبه وزالت نقمته عليه ، ووقف ينصت لدوى القطار وهو ينهب الأرض ويطوى القرى والدساكر .. وقد خيم عليها النخيل وطواها الظلام فى جوفه حتى بدت صامتة موحشة رهيبة ، ثم بارح مكانه وأخذ يجرف بعض الفحم من المخزن ويهيئه على عتبته للنار ، وبعد أن فرغ من ذلك أشعل سيجارة ونظر إلى السائق وود لو يحادثه ، يثرثر معه فى أى موضوع ، ويتكلم عن أى شيء ، دون أن يكون لكلامه وقع أو غرض أو غاية ، فما كان يعنيه هذا ، وإنما حسبه أن يتكلم لأن الصمت يمله ويضجره ، ويأخذ بمخنقه ويثير أعصابه ..
وفتح فمه ثم أطبقه ، وكان يعرف أن السائق قليل الكلام طويل الصمت .. وتنحنح وسعل وأطل من النافذة فطن فى أذنيه التيار الشديد ، وسفى فى وجهه الغبار وجرى عليه دخان الفحم ، وسمع صفير قطار من بعيد ، فبقى فى مكانه ليحيى سائقه إن أمكن ..! ومر قطار البضاعة يجلجل على القضبان ..
فقال المساعد وكأنما انبعث صوته من أعماق هاوية سحيقة :
ـ 367 ..؟
ـ نعم ..
ـ من الأقصر ..؟
ـ آه .. وخزن فى أسيوط ..
ـ توفيق شاكر ..؟
فهز السائق رأسه موافقًا ، وصمت المساعد لحظة كأنما يستعرض فى ذهنه صورًا باهتة يحاول بروزها ووضوحها ، وغير من نبرات صوته وهو يقول :
ـ كان سائقاً للقطار 72 .. أنزلوه .. بعض الأحيان تتحكم الأقدار ..
فلم يقل السائق شيئًا وأخذ يتمثل فى مخيلته صورة حادث توفيق كما سمعه من رفاقه .. ثم وضع يده على جبينه يتفرس فى الطريق ، يستشف الحجب ، ما وراء الغيب ، ما فى بطن الأقدار ..
فقال المساعد وقد طاب له أن يجد ما يتحدث فيه :
ـ كان خارجًا من ورشة سوهاج .. ليوصل القطار إلى الأقصر كانت السرعة أكثر من اللازم ، وكان العامل يتخطى القضبان .. توفيق نفسه لا يدرى كيف مات الرجل .. شهد عليه عامل " البلوك " واثنان من الخفراء ..
فقال السائق وقد حز فى نفسه الأسى على صاحبه :
ـ سئ الحظ .. وكان عليه أن يحاذر ..
فقال المساعد بصوت وان :
ـ يولد كثير من الناس ليموتوا تحت العجلات .. فما الذى يدفعه الحذر ، والسائق ، والكشاف ونور الكشاف ..؟ مرت على المرء كثير من الحوادث العجيبة التى تبعث على الدهشة والتفكير العميق ..
كنا قد بعدنا عن ديروط وفلاح مسكين ، على جمله ، ينتظر مرور القطار ، ومر القطار وفزع الجمل ، ورمى الرجل تحت العجلات .. قد يكون مر على هذا الجمل مائة قطار وهو ساكن ثابت ، ولكنه جفل فى هذه المرة لسبب لا نفهمه ..
فقال السائق وقد بدت على وجهه البشاشة :
ـ ولكن إذا كان الفـلاح قد رد الجمـل عن حديد الممر وبعد به عن الشريط أكان يموت ..؟
ـ كان لا يستطيع فى تلك الساعة أن يفعل ذلك .. كان لابد أن يموت فمات ..
ومر القطار على حقل كبير من القطن وقد تفتح ونور ، فتحول المساعد إلى الحقل ، وراقب السائق مقياس الطريق لحظات ، ثم أدار المحرك إلى اليسار قليلاً ، فقد بدأ الوادى ينحنى والشريط يدور ، وكان يعرف هذه الطريق أكثر من موضع أنفه من وجهه ، وهدأت حركة الآلآت نوعًا ، ثم أرجع المحرك إلى مكانه بعد ثوان ، وارتد عن النافذة ووقف أمام الفرن ، وطرفه على الساعة والمقياس ، واستمر هكذا مدة ، ثم أدار المحرك إلى اليسار مرة أخرى فى شدة حتى تعدى الكثير من الدرجات ، فقد وصل القطار إلى طريق مرمم واهن لا تزال تجرى عليه أيدى العمال فى النهار .. ودار بخلده أن أحد العمال قد يكون ترك سهوا بعض الأدوات الحديدية على الشريط ، فمد بصره إلى نهاية نور الكشاف ، وثبت نظره على حديد القضبان .. وفكر فى نفسه أنه بعد نصف ساعة وستمائة ثانية سيدخل محطة أسيوط ، وسره هذا كما سره خروجه منتصرًا من الطريق المرمم .. وبعد أن لمح المقياس أدار المحرك بالتدريج إلى اليمين ، إلى نهاية ما تتحمله أرض النيل السعيد ..! وكان يود أن يعوض بتلك السرعة الجارفة ما قضاه وهو سائر ببطء على الطريق الواهن .. وانطلق القطار كالسهم يطوى القرى ويزلزل تحته الأرض ..
وقال المساعد :
ـ النيل عال .. وشديد ..
فقال السائق وقد تحول بوجهه إلى النيل فرأى بعض المراكب الشراعية تسير مغالبة التيار :
ـ أتخاف أن تتقطع الجسور ..؟
ـ لا .. جسور القطارات هى آخر ما يصيبه الأذى دائمًا ..
وبقى نظر السائق ثابتًا على النيل ، وقد راقه هول الليل عند الأفق البعيد ..
وأطل المساعد من النافذة وبصره على الأرض الجارية .. وخيم صمت عميق ..
وقال المساعد بعد دقائق بصوت يرتعش :
ـ رجل ..!
ـ ماذا ..؟
ـ رجل تحت .. ال ..
فتلفت السائق فى سرعة البرق حيث أشار مساعده فرأى شبه شبح يضطرب فى غمرة الليل .. فصفر وألقى الشبكة وأدار المحرك إلى اليسار فى حذر شديد .. وكان قد فوجئ بالأمر فاضطرب جسمه قليلاً وجاشت نفسه .. ثم حبس البخار .. وأحس بعد مدة بضغط الفرامل وجلجلة العدد .. وقد أجبرت على البطء على غير انتظار .. ووقف وروحه تثور .. ونفسه حانقة ساخطة .. كان يود أن يدخل محطة أسيوط فى الساعة الواحدة والدقيقة الرابعة والعشرين .. منذ خمس سنوات لم يتأخر فى حياته مرة .. مرة واحدة .. كان دائما يحاذى الرصيف وعقرب الثوانى على الستين .. كم كان يشعر بالفخر والزهو والشموخ والتعالى على الإخوان ، كم كان يشعر بالزهو والفخر وهو المعروف بأنه المسيطر على الحديد والنار .. كان إذا تأخر فى أثناء الطريق يغذى النار ويدفع البخار ويجهد العدد ليدخل المحطة فى ميعاده .. ولكنه الآن سيتأخر .. لأول مرة فى حياته كسائق سيتأخر .. سيتأخر .. لا دقيقة ولا دقيقتين ولا ثلاثًا .. بل أكثر من ذلك ، شعر بنفسه تذوب حسرات .. أحس بالآلات تئن وتتوجع وتدق كالطبول .. كانت ضربات الضاغط والدوافع وسحبات الذراع ورجعات " البستون" .. تدوى فى أذنيه كالطاحون البالية ، كالمدافع المنطلقة على غير هدى فى وادى التيه .. أحس بدمه يفور .. وروحه تثور .. حتى عقدت جبينه السحب .. ولكن يده القوية كانت لا تزال على المحرك ، والقطار يحبس نفسه ويغالب قوة دفعه .. أى مأفون هذا الرجل الذى عبر الشريط هكذا وألقى بنفسه إلى التهلكة ..؟ وتصور الرجل وقد تمزق وطارت أشلاؤه .. وطحنته العجلات .. وجرى دمه مع الزيت .. فتفطر قلبه على الرجل المسكين .. ووقف تتملكه أعصابه الحديدية صامتًا .. حتى أحس بعد مدة بالآلات تجلجل وتطبل .. والبخار ينش ويئز .. والذراع يغلب ويجاهد .. ويطوح بنفسه فى ثقل ثم يدركه الونى فيحتضر ..
ونزل السائق ودار حول مقدمة القاطرة ، ثم انحنى ودخل تحتها يفحص العدد الصغيرة والآلات المحركة ، وخرج بعد دقائق ووجهه ينضح عرقاً ، وعلى معارف وجهه الساكنة آيات الهدوء المطلق ، ورآه مساعده وهو يستقيم بظهره القوى عن العجلات الأمامية ، ثم يتراجع خطوتين إلى الوراء ويتقدم تجاهه ، وهو يضرب بقدميه الزلط الملقى بجانب الشريط ، وكان لصوت قدميه دوى مسموع فى الليل الساكن .. وتوقف المساعد عن مسح عمود الذراع وقبض براحته على " الأسطبة " الملوثة بالزيت القذر ، وقال وهو يميل بوجهه إلى حيث صاحبه :
ـ لاشيء ..؟
ـ لا شيء فى العجلات الأمامية ، وإنما أثر الدم واضح فى التروس الخلفية التى أخذ عندها الرجل ، على أن العدد سليمة ولا أثر للحم ولا عظام ..
فصمت المساعد كأنه يفكر .. ثم استأنف عمله وكان المشعل الصغير الذى فى يسراه ينتفض ويخبو ويشتعل ، ويميل لسان اللهب يمنة ويسرة تبعًا لهبات الرياح .. وكان الزيت قد امتزج بعرقه الهاطل وسال من يده على ساعده ، ولوث الكثير من جسمه ، فمسح الزيت فى سرواله ، بعد أن رمى الأسطبة على الأرض ، ودارت يده حول ذقنه ورفع المشعل إلى ما فوق رأسه ، واستدار ومد بصره ، وكان الكثير من الركاب يطلون من النوافذ ، ووجوههم إلى الخلف ، وظلهم للواقف منهم على الأبواب واضح على الأرض ، وعامل العربة الخلفية يتحدث مع " الكمسارى " وحولهما بعض الناس ..
واعتمد السائق على حديد النافذة وأخذ يدخن ونظره مسدد إلى الوراء حتى رأى عامل الإشارة يلوح برأيته ، فقال لمساعده :
ـ اطلع ..
فطلع المساعد إلى القاطرة ، ووضع المزيتة جانبًا ، وبعد السائق عن النافذة الخلفية ووقف أمام الآلة يحدق فى الساعة ثم مد يده وأدار المحرك إلى اليمين قليلاً فتحركت العجلات الأربع الأمامية الصغيرة فى بطء وثقل شديد ، ودارت العجلات الأربع الكبيرة التى خلفها على الفارغ ، ارتفعت عن القضبان ودارت على الفارغ فى سرعة وجنون .. وزفر القطار ، وأز البخار ونش ، وشال الذراع وحط ، وتحركت العجلات الأمامية ، ولامست العجلات التى خلفها القضبان ، وشال الذراع وحط وتقدم القطار وهو يئن ويتوجع وينوح ، وتقدم القطار فى بطء وحزن من غير صفير ..!
==========================
نشرت القصة فى مجلة الرسالة بالعدد 178 بتاريخ 30/11/1936 وأعيد نشرها فى كتاب " فندق الدانوب " سنة 1941
=========================
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق