الزوجة المصونة
مع أن أصدقاء زكى أفندى وزملاءه فى الديوان ، ألفوا أن يشاهدوه مبتسما ، ولكنه لفت أنظارهم واسترعى انتباههم فى هذا الصباح على الخصوص ، فقد زادت الابتسامة حتى غطت وجهه الضامر ، وحتى طوى خالد أفندى .. وكان جاره .. صحيفة الصباح التى كان يطالعها وأخذ يحدق فيه مدة عله يستطيع أن يفهم هذا التغيير العظيم الذى طرأ على صاحبه ..! ولم يكن زكى أفندى يعنيه انتباه أصحابه إليه ، بل كان يفكر فى أمر استغرق تفكيره طول الليل .. وقلبه على فراشه .. وفتق سبل التأملات فى ذهنه ، فلما استقر رأيه على كتابة رسالة فى هذا الصباح الباكر ، قبل أن يخط حرفًا فى الديوان ، رجعت إليه نفسه وفاء إلى مرحه ، وزادت ابتسامته البلهاء حتى غدت عريضة تستغرق كل ملامح وجهه .. ومع أن القهوة كانت تجئ إليه فى الساعة الثامنة وكان يبقيها على حافة المكتب حتى الثامنة والربع على الأقل ، لأنه يتذوقها باردة ، ولكنه فى هذا الصباح شربها حارة جدًا حتى ألهبت شفتيه الغليظتين ، وأسالت العرق من أنفه الملتوى ، وهو أول ما يصيبه التعب من جوارح جسمه ..! ولم يكن إخراج الرسالة من المكتب بالجهد الذى يعبر عنه زكى أفندى بتقلص الشفة .. وتقبض الجبين .. ونضوب ملامح الوجه .. بل كان على العكس من ذلك داعيًا لازدياد سروره وسكونه إلى نفسه وعمله ، ولما كان القلم على القرطاس ، وانحنى الرأس على الورق بعد أن تهيأ الجسم كله لعملية الكتابة الشاقة ، عند زكى أفندى ..
ابتدأ الرأس الصغير يفكر ، ويفكر تفكيراً ملحًا فيه براعة وحذق حتى سطر القلم أخيرًا ..
" عزيزى أحمد
" كنا قد اتفقنا على أن يكون تشريفك القاهرة أنت وزوجتى المصونة يوم الثلاثاء الماضى ، ولكن الثلاثاء مضى وانقضى بعده الأربعاء والخميس ولم تشرفا ، ومع اطمئنانى التام على عنايتك بزوجى وسهرك على راحتها ، وتوفير أسباب الهناء لها ، بكل الوسائل .. لكنى سمعت أن جو الاسكندرية تغير ، وأن بشائر الخريف حملت طلائع الرطوبة ، وأخاف أن تؤثر هذه الرطوبة على زوجتى العزيزة .."
وهنا فكر زكى أفندى فى الرطوبة كثيرا ، وقدر ما تجره على زوجته من ويلات ، وأخذ يتصور زوجته وقد أصابها البرد وابتدأت تسعل .. ثم تطور الحال واشتدت العلة حتى اضطرت إلى الاستدفاء فى الفراش .. وتصور أيضًا صديقه أحمد وهو واقف بجانبها ، يقدم لها فناجيل الشاى ويجس نبضها ، ويقيس درجة حرارتها ، ثم يغطيها بالبطانية الصوفية بعد أن يلف بها رجليها وأسفل جسمها .. فاستاء لمرض زوجته المسكينة ، ولكنه سر لوفاء صديقه وقيامه على خدمتها وتمريضها على أحسن منوال ..!
ثم رجع إلى رسالته وأضاف :
" وأخاف عليها شر البرد ، وأنت تعلم أن جسمها الرقيق لا يتحمل مصائبه .. وتعرف أيضا أنها ما كانت تطيق البقاء فى البحر طويلا ، واحتمال حرارة الشمس وهى مستلقية على الرمال ، تعرف أنها ما كانت تصبر على الحرارة فهى تكرهها بقدر ما تبغض الرطوبة ..!"
وهنا رجع يذكر سفره إلى الإسكندرية ومعه زوجته ونزولهما ضيفين على صديقه المخلص أحمد رفيق صباه فى المدرسة ، واستحمامهم الثلاثة فى البحر ، وتمضية معظم الصباح على الشط مستلقين على الرمل ، أو سابحين فى اللج ، أو لاعبين بالكرة .. وكثيرا ما كان أحمد يداعب زوجته بضربها بالكرة على خدها ، أو شد رجليها وهو تحت الماء .. وذكرها وهى تضحك كثيرا حتى يطفر الدم إلى وجنتيها ، ويسيل لعابها . ثم ذكر نفسه ، وقد اضطرته ظروف عمله إلى الرجوع إلى القاهرة ، وترك زوجته مع صديقه تستكمل راحتها ، وتسترد صحتها الذاهبة فى تعب العمل فى البيت ..
وكان الاتفاق على أن تبقى بعد سفره أسبوعا واحداً ولكنها بقيت أسبوعين وثلاثة وأربعة .. وكان كلما طلب منه العودة لأنه بدونها لا يستطيع العيش كما يجب .. رجته فى رسالة رقيقة بدأتها بزوجى المحبوب – وسرته هذه التسمية وشيعت الابتسامة فى جوانب فمه ورقصت قلبه – فى أن يمهلها يومين أو ثلاثة على الأكثر .. وذكر أيضا ، وهو يبتسم ، أن آخر قرار حاسم قررته هو العودة يوم الثلاثاء الماضى ولكنها لم تشرف أيضا ..! وهذا ما دعاه إلى أن يضيف بحرارة :
" أنت تعلم يا صديقى الوفى حبى الشديد لزوجى وقلقى على صحتها حتى وإن كنت على يقين من أنها نازلة عندك أحسن منزل .. وتعلم أن الذى ركن واستراح إلى الحياة الزوجية الهادئة القانعة السعيدة لا يمكنه أن يستمر عزبا وحيدًا مستوحشًا شهراً بطوله ، ومع شكرى على راحتها وتوفير أسباب السعادة لها ، ولكنى أرى يا صديقى أنها أجهدتك وأتعبتك أكثر من اللازم ، وأنه جاء دورك الآن لتستريح بعد كل هذا الجهد الشاق الذى بذلته معها ، فمن رياضة فى الخلوات إلى سباحة فى البحر إلى أشياء أخرى كثيرة ممتعة .. وما أراها بعد هذا كله إلا زادت فى الوزن ..! "
وهنا تذكر زكى أفندى زوجته ، وهى تلح عليه دائما فى وزن نفسها كلما مشيا فى شارع عماد الدين ، وبصرت بالموازين القائمة فى الطرقات .. ومع أن الفارق فى الوزن بين اليوم والثانى كان ضئيلا وضئيلا جدًا ، ولكنها كانت لا تفتأ تدفع القروش بسخاء بحجة أنها اليوم أحسن .. وأنها تود أن تطمئن ..
وختم رسالته بقوله :
" وأخيرًا أرجوك يا صديقى العزيز رجاء حارًا أن تقنع زوجتى المصونة بالعودة ، وتعمل على سفرها يوم الخميس فى أول قطار .. ويسرنى أن ترافقها لتمضى بيننا أياما هانئة .."
" قبلاتى الحارة إلى زوجتى وتحياتى القلبية إليك .."
وغلف زكى أفندى الرسالة ، وهو يفكر فى خلال ذلك ، فى زوجته المصونة ، وهى جالسة فى القطار ، وبجانبها أحمد أفندى وقد اضطرهما الغبار الشديد إلى إغلاق النافذة ، وقطع الطريق الطويل بالحديث الشيق ، وتبادل النكات الطلية ، بل وفعل ما هو أكثر من ذلك ..
==========================
نشرت القصة فى مجلة غريب عدد يناير 1936 وأعيد نشرها فى كتاب " فندق الدانوب " سنة 1941
==========================
مع أن أصدقاء زكى أفندى وزملاءه فى الديوان ، ألفوا أن يشاهدوه مبتسما ، ولكنه لفت أنظارهم واسترعى انتباههم فى هذا الصباح على الخصوص ، فقد زادت الابتسامة حتى غطت وجهه الضامر ، وحتى طوى خالد أفندى .. وكان جاره .. صحيفة الصباح التى كان يطالعها وأخذ يحدق فيه مدة عله يستطيع أن يفهم هذا التغيير العظيم الذى طرأ على صاحبه ..! ولم يكن زكى أفندى يعنيه انتباه أصحابه إليه ، بل كان يفكر فى أمر استغرق تفكيره طول الليل .. وقلبه على فراشه .. وفتق سبل التأملات فى ذهنه ، فلما استقر رأيه على كتابة رسالة فى هذا الصباح الباكر ، قبل أن يخط حرفًا فى الديوان ، رجعت إليه نفسه وفاء إلى مرحه ، وزادت ابتسامته البلهاء حتى غدت عريضة تستغرق كل ملامح وجهه .. ومع أن القهوة كانت تجئ إليه فى الساعة الثامنة وكان يبقيها على حافة المكتب حتى الثامنة والربع على الأقل ، لأنه يتذوقها باردة ، ولكنه فى هذا الصباح شربها حارة جدًا حتى ألهبت شفتيه الغليظتين ، وأسالت العرق من أنفه الملتوى ، وهو أول ما يصيبه التعب من جوارح جسمه ..! ولم يكن إخراج الرسالة من المكتب بالجهد الذى يعبر عنه زكى أفندى بتقلص الشفة .. وتقبض الجبين .. ونضوب ملامح الوجه .. بل كان على العكس من ذلك داعيًا لازدياد سروره وسكونه إلى نفسه وعمله ، ولما كان القلم على القرطاس ، وانحنى الرأس على الورق بعد أن تهيأ الجسم كله لعملية الكتابة الشاقة ، عند زكى أفندى ..
ابتدأ الرأس الصغير يفكر ، ويفكر تفكيراً ملحًا فيه براعة وحذق حتى سطر القلم أخيرًا ..
" عزيزى أحمد
" كنا قد اتفقنا على أن يكون تشريفك القاهرة أنت وزوجتى المصونة يوم الثلاثاء الماضى ، ولكن الثلاثاء مضى وانقضى بعده الأربعاء والخميس ولم تشرفا ، ومع اطمئنانى التام على عنايتك بزوجى وسهرك على راحتها ، وتوفير أسباب الهناء لها ، بكل الوسائل .. لكنى سمعت أن جو الاسكندرية تغير ، وأن بشائر الخريف حملت طلائع الرطوبة ، وأخاف أن تؤثر هذه الرطوبة على زوجتى العزيزة .."
وهنا فكر زكى أفندى فى الرطوبة كثيرا ، وقدر ما تجره على زوجته من ويلات ، وأخذ يتصور زوجته وقد أصابها البرد وابتدأت تسعل .. ثم تطور الحال واشتدت العلة حتى اضطرت إلى الاستدفاء فى الفراش .. وتصور أيضًا صديقه أحمد وهو واقف بجانبها ، يقدم لها فناجيل الشاى ويجس نبضها ، ويقيس درجة حرارتها ، ثم يغطيها بالبطانية الصوفية بعد أن يلف بها رجليها وأسفل جسمها .. فاستاء لمرض زوجته المسكينة ، ولكنه سر لوفاء صديقه وقيامه على خدمتها وتمريضها على أحسن منوال ..!
ثم رجع إلى رسالته وأضاف :
" وأخاف عليها شر البرد ، وأنت تعلم أن جسمها الرقيق لا يتحمل مصائبه .. وتعرف أيضا أنها ما كانت تطيق البقاء فى البحر طويلا ، واحتمال حرارة الشمس وهى مستلقية على الرمال ، تعرف أنها ما كانت تصبر على الحرارة فهى تكرهها بقدر ما تبغض الرطوبة ..!"
وهنا رجع يذكر سفره إلى الإسكندرية ومعه زوجته ونزولهما ضيفين على صديقه المخلص أحمد رفيق صباه فى المدرسة ، واستحمامهم الثلاثة فى البحر ، وتمضية معظم الصباح على الشط مستلقين على الرمل ، أو سابحين فى اللج ، أو لاعبين بالكرة .. وكثيرا ما كان أحمد يداعب زوجته بضربها بالكرة على خدها ، أو شد رجليها وهو تحت الماء .. وذكرها وهى تضحك كثيرا حتى يطفر الدم إلى وجنتيها ، ويسيل لعابها . ثم ذكر نفسه ، وقد اضطرته ظروف عمله إلى الرجوع إلى القاهرة ، وترك زوجته مع صديقه تستكمل راحتها ، وتسترد صحتها الذاهبة فى تعب العمل فى البيت ..
وكان الاتفاق على أن تبقى بعد سفره أسبوعا واحداً ولكنها بقيت أسبوعين وثلاثة وأربعة .. وكان كلما طلب منه العودة لأنه بدونها لا يستطيع العيش كما يجب .. رجته فى رسالة رقيقة بدأتها بزوجى المحبوب – وسرته هذه التسمية وشيعت الابتسامة فى جوانب فمه ورقصت قلبه – فى أن يمهلها يومين أو ثلاثة على الأكثر .. وذكر أيضا ، وهو يبتسم ، أن آخر قرار حاسم قررته هو العودة يوم الثلاثاء الماضى ولكنها لم تشرف أيضا ..! وهذا ما دعاه إلى أن يضيف بحرارة :
" أنت تعلم يا صديقى الوفى حبى الشديد لزوجى وقلقى على صحتها حتى وإن كنت على يقين من أنها نازلة عندك أحسن منزل .. وتعلم أن الذى ركن واستراح إلى الحياة الزوجية الهادئة القانعة السعيدة لا يمكنه أن يستمر عزبا وحيدًا مستوحشًا شهراً بطوله ، ومع شكرى على راحتها وتوفير أسباب السعادة لها ، ولكنى أرى يا صديقى أنها أجهدتك وأتعبتك أكثر من اللازم ، وأنه جاء دورك الآن لتستريح بعد كل هذا الجهد الشاق الذى بذلته معها ، فمن رياضة فى الخلوات إلى سباحة فى البحر إلى أشياء أخرى كثيرة ممتعة .. وما أراها بعد هذا كله إلا زادت فى الوزن ..! "
وهنا تذكر زكى أفندى زوجته ، وهى تلح عليه دائما فى وزن نفسها كلما مشيا فى شارع عماد الدين ، وبصرت بالموازين القائمة فى الطرقات .. ومع أن الفارق فى الوزن بين اليوم والثانى كان ضئيلا وضئيلا جدًا ، ولكنها كانت لا تفتأ تدفع القروش بسخاء بحجة أنها اليوم أحسن .. وأنها تود أن تطمئن ..
وختم رسالته بقوله :
" وأخيرًا أرجوك يا صديقى العزيز رجاء حارًا أن تقنع زوجتى المصونة بالعودة ، وتعمل على سفرها يوم الخميس فى أول قطار .. ويسرنى أن ترافقها لتمضى بيننا أياما هانئة .."
" قبلاتى الحارة إلى زوجتى وتحياتى القلبية إليك .."
وغلف زكى أفندى الرسالة ، وهو يفكر فى خلال ذلك ، فى زوجته المصونة ، وهى جالسة فى القطار ، وبجانبها أحمد أفندى وقد اضطرهما الغبار الشديد إلى إغلاق النافذة ، وقطع الطريق الطويل بالحديث الشيق ، وتبادل النكات الطلية ، بل وفعل ما هو أكثر من ذلك ..
==========================
نشرت القصة فى مجلة غريب عدد يناير 1936 وأعيد نشرها فى كتاب " فندق الدانوب " سنة 1941
==========================
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق