فندق الدانوب
عدت إلى كونستنزا ، ونزلت فى " فندق الدانوب " مرة أخرى ، كما شاءت كاترينا ، على الرغم من أنه ليس من الفنادق التى تشتهى فى هذه المدينة ، فهو يبعد عن البحر ، ويبعد كذلك عن أنظار السائحين ، والجانب الأكبر من حجراته لا يدور مع الشمس ، ولا يشرف على مناظر خلابة ، وهو إلى جانب هذا يقع فى قلب المدينة ، وعلى خطى قليلة من الخط الحديدى ، فالمقيم فيه ينام على صوت العجلات وهى تدور على القضبان ، وينهض على صفير القطر وهى تبرح المحطة ..!
على أن كل شيء يتحول فى نظرك إلى جمال وفتنة عندما ترى كاترينا .. تلك الفتاة الروسية الجميلة التى تعمل فى الفندق ..
وكنت قد لبست حلتى وتهيأت للخروج عندما دخلت كاترينا غرفتى فحيتنى فى ابتسامة ساحرة ..! وهصرت ستر النافذة ، وقالت ووجهها مشرف على الطريق :
ـ نمت نومًا عميقًا وحلمت بكاترينا كالعادة ..؟
ـ أجل يا كاترينا .. وحلمت أننا نجرى على ساحل البحر فى كارمن سلفيا .. وأنت تطفرين من المرح وتقذفيننى بالكرة .. والآن هل تحققين هذا الحلم ..؟
ـ ماذا ..؟ أتنزه معك ..؟ والعمل والفندق ..؟ أنا أمشى مع الشبان فى الطرقات ..!
ـ طبعًا يا كاترينا .. أنت لا تمشين مع الصعاليك من أمثالى ..!
ـ آه .. صعلوك .. ماذا تقول .. صعلوك ..؟ لا تقل هذا ..!
ومالت بخصرها على مائدة صغيرة فى الغرفة وهى تهتز من الضحك وتزيح خصل الشعر المتدلية على جبينها .. وتمر بأناملها على فمها .. وقد تورد وجهها وأشرق محياها .. سكنت نأمتها .. وأخذت ترنو إلىّ وعلى وجهها سحنة الفتاة الريفية التى لا تعرف من صروف الحياة شيئًا .. وقالت بصوت حلو لين النبرات :
ـ أنت لا تعرف شعور الفتاة يا شوقى .. كيف أخلع رداء الحياء وأمشى على شاطئ البحر شبه عارية وعيون الشبان تأكلنى ..؟ كلا .. أنا فتاة من أسرة روسية معروفة .. وأنت تقول لى هذا الكلام لأنك لا تعرفنى .. ترى أمامك فتاة فقيرة تعمل فى فندق .. هذا هو كل ما تعرفه عنى .. إفهم شعور العذراء يا شوقى ..!
ـ طبعًا .. أنا أعرف شعور العذراء يا كاترينا .. ولكن هذا لا يمنعك من التنزه معى لترى الدنيا .. الدنيا ليست هنا فى هذا الفندق ..
فاحمر وجه كاترينا .. وأسبلت جفنيها .. وغضت رأسها .. كطفل صغير ارتكب عملا يعده مزرياً .. ثم رفعت أهدابها وقالت بصوت خافت :
ـ كيف أخرج معك بهذا الثوب ..؟ أنظر ..!
ونظرت إلى ثوبها وكان يبعث على الرثاء حقًا ..!
ـ أليس معك غيره يا كاترينا ..؟
فغضت رأسها ثانية .. وانسدلت أهدابها على هاتين العينين الزرقاوين اللتين لا تعرف من أسرارهما وتعابيرهما شيئًا ..
ورفعت جبينها وقالت ويدها على عاتقى :
ـ أبدًا .. أنا فتاة وحيدة وفقيرة ..!
ـ سأجود لك بثوب جديد يا كاترينا ..
فاهتز جسمها .. كأن سيالا كهربائيا سرى فى ألياف لحمها .. وطوقتنى بذراعيها ..
وقالت وهى نشوى طروب :
ـ والآن .. سأجيء لك بالإفطار .. وسنفطر سويًا .. ولكن لا تأكل الطعام كله كما تفعل دائمًا .. ولا تدع للصغيرة المسكينة كاترينا شيئاً .. أوه .. أنت مروع ..!
***
رجعت ذات ليلة إلى الفندق متأخرًا ، بعد أن قامرت وأفرطت فى الشراب .. لعبت الروليت فى الكازينو وخسرت كثيراً ، وطيرت الخسارة الأحلام من رأسى وصعدت درجات الفندق متثاقلا حتى بلغت غرفتى .. وقد خيم السكون العميق على الطابق كله .. وفيما أدير المفتاح فى الباب سمعت رنين قبلات فى إحدى الغرف .. ثم صوت ضحكات .. ضحكات كاترينا بعينها .. فلا أحد يضحك مثلها بقلب طروب .. وسمعت إثر ذلك صوتها وهى تتحدث فى همس .. وفتحت باب غرفتى ودفعته ورائى بغيظ وحنق ..
وبعد لحظات فتح الباب برفق .. ودخلت كاترينا وهى تتثاءب وعيناها شبه مغلقتين .. كأنها مستيقظة من نوم عميق .. أو أفاقت فى التو من تأثير مخدر ..! وجلست على الديوان وهى تفرك عينيها ووضعت ساقًا فوق أخرى ، ومالت بجسمها إلى الوراء وقالت وهى أشبه بالنائمة أو الحالمة :
ـ لماذا تأخرت هكذا ..؟ كنت فى الكازينو طبعًا .. لقد أبصرت بك ليزا مع بعض الغوانى ..
فصمت ولم أجب .. ونظرت إلى هذه الفتاة وهى تتكسر وتتثائب ، وتتصنع التعب الشديد ، وتحاول الاستفاقة من النوم ، وقد كانت منذ لحظة فى أحضان رجل ، وحاولت أن أقرأ فى عينيها شيئًا ينم عن حقيقة أمرها فلم أستطع ..
وجلست صامتة وهى تسارقنى النظر .. ثم نهضت ومشت إلى صوان الملابس وجاءت لى بجلبابى ، فتناولته منها ، ودفعتها عنى ، فابتعدت قليلا ولم تقل شيئًا ، وظلت هادئة ووجهها ساكن الطائر ، ونظراتها لا تتغير ..
وقلت بصوت خشن ، وقد تحول بصرى عنها :
ـ والآن أريد أن أنام يا كاترينا ..
ـ ألا تريد شيئًا .. ؟
فرفعت وجهى ونظرت إليها نظرة يتطاير منها شرر الغضب .. فوقفت فى وسط الغرفة أكثر من دقيقة وهى لا تبدى حـراكا ، ولا تحـرك ساكنًا .. ثم مشت متثاقلة إلى الباب ..
وأغلقت الباب وراءها بعنف وغيظ ، ولا أدرى لماذا كنت أحمق إلى هذا الحد ..
وذهبت مرة إلى مطعم من مطاعم السمك الفخمة فى شارع كارول لأتعشى .. بعد أن ترددت طويلا فى ولوج بابه .. وجلست فى ركن بعيد عن الخلق ، وأنا شاعر بالنفور والقلق .. ودرت ببصرى الحائر فيمن حولى .. كما ينظر الرجل الغريب إلى قوم لا يعرفونه .. وشد ما كانت دهشتى عندما لمحت كاترينا جالسة إلى مائدة فى وسط القاعة مع كهل أنيق الملبس رائع المظهر .. وكانت ترتدى ثوبًا من الحرير الفاخر لا ترى مثله إلا فى قصور الأمراء ..! ولما وقع نظرها علىّ ابتسمت ، وأحنت رأسها فى أرستقراطية أصيلة ..! ولمحت فى عينيها وهى تنظر إلىّ ذلك البريق الخاطف الذى يبدو ثم يختفى فى لمح الطرف .. ولا تعرف منه شيئًا على الإطلاق .. ونظرت إلى هيئتها وبزتها ، وقارنتها بالنساء الجالسات فى المطعم فإذا بها تبزهن جميعًا .. فهى آنق مظهراً .. وأحلى شكلا .. وأنضر وجهًا ..
ورجعت أذكرها وهى فى ثوبها الأبيض البسيط فى الفندق كفتاة ريفية ساذجة يبدو لك من مظهرها أنها لا تعرف من شئون الحياة شيئًا .. وأدركنى العجب ..
وغافلتها وهى تحادث صاحبها ، وانسللت إلى الخارج ..
***
وعدت من بعض المراقص إلى الفندق ، فوجدتها جالسة فى غرفتى منكبة على المكتب تكتب رسالة ..! ورفعت وجهها لما شعرت بى .. وتوقفت عن الكتابة ونظرت إلىّ وهى باسمة .. ثم عادت تكتب ، وبعد دقيقتين طوت الرسالة وغلفتها وقالت :
ـ إننى اكتب رسالة إلى صديقة عزيزة فى بلغراد .. هل رأيت ذلك العجوز الذى كان معى الليلة فى المطعم ..؟ إنه عمى ..! جاء أمس من بلغراد ، وحدثنى عن مرض كاتوشنكا العزيزة ، فجلست أكتب إليها هذه الرسالة فى الحال .. إنها من أعز صديقاتى وقد طردنا الحمر معًا ، وكنا نعمل سويًا فى بودابست ، ثم طوحت بنا الأقدار .. ومازالت انحط حتى وصلت بى الدرجة إلى العمل فى هذا الفندق ..! هل تتصور أننى سأترك هذا اليهودى يحاسبك على هواه .. ويقدم إليك الكشوف فى آخر الشهر كأنك مهراجا من الهند .. كل شرقى عند هذا الرجل الجشع مهراجا .. لا .. أنت طالب مسكين يا شوقى ، عندما يجئ ديمترى ويدفع لك بهذه الأوراق ألقها فى هذه السلة .. سأحضر الحساب ، فلا تسل عن ذلك اليهودى يا شوقى ..!
وكانت تتكلم بسرعة كأنها تتلو من ورقة أمامها .. ثم كفت عن الكلام .. ونظرت إليها فإذا بها ساهمة كأنها تفكر .. ولأول مرة أشاهد كاترينا تفكر فإن رأسها الصغير الجميل لا يتسع للتفكير ..
وطوقتها بذراعى وقلت لها :
ـ هل نذهب غدًا إلى إيفوريا ..؟
ـ أجل .. ولكن ليس إلى إيفوريا .. أو كارمن سلفيا .. أو مامايا .. سنذهب بعيدًا بعيدًا عن كل هذه البلاد ..
وكانت تحلم ، وما أعذب الأحلام فى رأس فتاة فى مثل سنها وجمالها .. وضممتها إلى صدرى فسكنت واستراحت ، وأغمضت عينيها نصف إغماضة ، ثم انتفضت فجأة واعتدلت فى جلستها وصاحت ..
ـ ما هذا الجنون ..! أنت تعرف أننى عذراء .. أنت مروع ..!
***
وسافرت من كونستنزا إلى مدينة صغيرة على الدانوب ، وعدت منها بقطار بوخارست السريع إلى الميناء مباشرة .. ولم أشأ الذهاب إلى الفندق مخافة أن ألتقى بكاترينا فتبقينى أياما أخر ..
ولما اقترب موعد السفر ، صعدت إلى ظهر السفينة ووقفت على الجسر أرقب حركة المسافرين والمودعين ، وقد علت وجهى تلك الكآبة التى تعلو الراحل عن بلاد يحبها .. بلاد قضى فيها أسعد أيامه وأمتع لياليه ، وكانت الشمس قد غربت .. وبدت تلك الميناء الصغيرة تتلألأ فى غبش الغسق .. وأخذت أستعرض فى ذهنى الصور الجميلة التى مرت علىّ فى تلك البلاد .. مناظر سينايا الخلابة .. وشواطئ الدانوب الساحرة .. وحسان بخارست .. وغانيات كارمن سلفيا .. وفاتنات ممايا .. وفندق بولونا .. وفندق الدانوب .. وكاترينا .. أجل كاترينا واتكأت على السور الحديدى .. وعينى إلى الأفق .. وكل شيء يمضى سريعًا .. ولمحت فتاة تهبط المنحدر المشرف على الميناء ، وكانت تمضى على عجل ، وبصرها لا يتحول عن السفينة .. وفتحت عينى وتبينتها فكانت كاترينا ..
وقفت لحظة حائرة .. ثم نقلت بصرها فى الركاب .. ولمحتنى فجرت على الرصيف حتى وقفت أمامى وهى تلهث .. فنظرت إليها مشدوها وسألتها :
ـ ما الذى جاء بك ..؟ وكيف عرفت أننى سأسافر اليوم ..؟
ـ هذا سهل ..! دعك من هذا الآن كيف حالك ..؟ شد ما تغيرت ونسيت كاترينا المسكينة التى لا يذكرها أحد ..!
ولم أستمع لباقى حديثها .. فقد درت ببصرى فى الركاب لأحصى عدد الذين جاءت تودعهم كاترينا .. فلابد أن يكون منهم من نزل فى فندق الدانوب والتقى بها ..!
ورأت نظراتى .. وقرأت ما دار بخلدى .. فامتقع لونها وغضت طرفها .. ثم رفعت رأسها وقالت .. وقد اختلجت نبرات صوتها :
ـ شوقى .. هل تحسب أننى جئت أودعك .. كلا .. أنت مروع ..! إننى جئت أرقب هذه السفينة وهى مقلعة وسائرة برهة فى الطريق الذى تسير فيه السفن إلى وطنى .. سأركب هذه السفينة يوما ما .. وأعود إلى وطنى ، وأرى بافلوفنا .. وسونيا .. وأولجا مرة أخرى .. إننى أجيء إلى هنا كل أسبوع وأرقب السفن وهى مبحرة .. وأتخيل أن ذلك اليوم سيأتى ولابد أن يأتى .. فلا تحسبنى أننى جئت أودع الصعاليك أمثالك ..!
فاستغرقت فى الضحك :
ـ لا تقولى هذا يا كاترينا .. إننى مسافر اليوم وسأعود غدا لأراك ، ولابد أن نلتقى ثانية ..
ـ حقا ..؟
ـ أجل .. لابد وأن أعود فى العام المقبل ، وكل عام بعده ، لأرى كاترينا ..
ـ والآن أسكت واقترب .. أرأيت ..؟ إننا لا نستطيع أن نتصافح ، إنتظر لابد من ذلك ..
واحمرَ وجهها ولمعت عيناها .. وظهرت فى أبدع ما كونها الله .. وقد اختلجت شفتاها .. وتهدل شعرها .. ورف لونها .. وتورد خداها .. وعلت أنفاسها .. ومالت برأسها إلى الوراء .. وارتفعت بجسمها قليلا .. وانحنيت عليها .. والتقت يدانا وتصافحت أنفاسنا ..
ودوى صفير الباخرة .. وتراجعت كاترينا .. ووقفت جامدة كالتمثال وعيناها مخضلتان بمثل الدمع ..
وشيعتها ببصرى وهى تصعد المنحدر الذى جاءت منه ، ولكنها لم تكن تمضى مسرعة .. بل كانت تسير على مهل كاسفة البال حزينة .. كأنها استفاقت من حلم ..
========================
نشرت القصة فى مجلة الرسالة بالعدد 398 بتاريخ 17/2/1941 وأعيد نشرها فى كتاب " فندق الدانوب " سنة 1941
========================
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق