الحب الأول
كانت الساعة العاشرة من إحدى أمسيات يونيو ، وكنت متمددا على سريرى ، أفكر فى مصير المباراة التى سنقيمها غداً بين فتيان حينا وحى الحلمية .. عندما سمعت والدتى تقول لأبى على العشاء :
ـ وصلتنى عصر اليوم رسالة من إحسان وقد بعثت السمن والجبن بقطار الركاب ، وهى بخير وعافية وتدعو حلمى لتمضية أيام فى القرية .. فما رأيك ..؟
فأجاب أبى وهو يمضغ طعامه :
ـ لا مانع عندى .. والأمر إليك ..
فقالت أمى :
ـ أنا لا أستطيع أن أرد لها طلباً .. فليسافر إذن ..
وكان والدى يفوض أمرى فى مثل هذه الشئون إليها ، وهى التى كانت تحبسنى دائماً معها مدة عطلة الدراسة الصيفية الطويلة ، وترفض كل الدعوات التى تجئ من أقربائى فى الريف لأنها تخاف علىّ من الغرق ، والعطلة عادة زمن الفيضان ، أو تخشى شر حشرات القرى ، وهى تبارح أوكارها فى الصيف ، على أن الأمر اختلف فى نظرها مع إحسان الفتاة اليتيمة المسكينة كما كانت تنعتها دائما ..! فلقد كانت من أحب قريبات أمى وأعزهن عندها خصوصاً بعد أن ماتت جدة إحسان وخلفتها وحيدة فى منزل أبيها الكبير ..!
وكنت فى ذلك الحين فى السادسة عشرة من عمرى ، وكنا نسكن فى شارع القاصد بعابدين ، وقد مضى علىّ أكثر من ست سنوات لم أر فى خلالها القرية ، ولم أنتقل من القاهرة إلا للتصييف مع الأسرة فى المصايف ، حتى أصبحت متشوقا جداً لرؤيتها متلهفا على تمضية جزء من العطلة فى الريف ، بعد أن ضقت ذرعاً بالقاهرة وضجرت بما فيها .. فالأمر لا يعدو تمضية النهار فى لعب الكرة مع الرفاق ، ثم حبس المرء فى المنزل من الساعة السابعة مساء .. فلما سمعت موافقة والدى على سفرى طار قلبى فرحاً ، ورحت أتصور القرية عندما كنت أزورها مع أبى مرة فى العام قبل أن يفتر عن زيارتها بالتدريج ، ثم ينقطع دفعة واحدة ، وكان ذلك فى الوقت الذى بدأ فيه الموت يحصد أفراد أسرتنا حصدًا .. فكره والدى القرية وتحول عنها إلى الإسكندرية ..
***
ولم يغمض لى جفن طول الليل من شدة الفرح ، ومضيت الليل مكونا فى رأسى صوراً ذهنية رائعة عما سأشاهده فى الريف الجميل من مناظر ورؤى ومتع ولذائذ ، على أن السرور لم يكن خالصًا ، فقد ساورتنى الهواجس ، وانتابنى بعض القلق ، بعد أن دار بخلدى أن والدتى قد تغير رأيها فى الصباح ، وعلى الأخص بعد أن فوض لها والدى الأمر والسيدات متقلبات متلونات .. فربما عرضت الأمر على بعض صاحباتها فتبسط لها هذه مشقة السفر فى براعة فترفض .. وشق علىّ هذا حتى رحت أتضرع إلى الله طيلة الليل ألا يزورنا من الجنس اللطيف أحد ، وأن تشغل كل واحدة بما يصرفها عن الزيارة حتى ولو بالمرض المفاجئ ..! فلقد كان شوقى إلى تمضية أيام فى القرية لا يصور ..
***
وأخذت أمى فى الصباح تعد العدة لسفرى ، وفى الساعة العاشرة من مساء اليوم نفسه تحرك بى القطار إلى الصعيد .. ووصلت مع مطلع الشمس فألفيت فى انتظارى على المحطة خادمنا سعيد ..
واستويت كالفارس على جواد أدهم مطهم ، والخادم خلفى على حمار أشهب ضخم .. وبلغنا القرية عند الضحى ..
وترجلت .. ووقف الخادم على الباب الكبير يقرعه ..
وفتحت خادمة سوداء نصف ، فما وقع بصرها علىّ حتى افترت نواجذها ولمعت عيناها ، وولت عنى تصيح بأعلى صوتها :
ـ سيدى حلمى .. ستى .. سيدى حلمى .. ستى .. ستى ..
ودوى الصوت فى جنبات الفناء الرحب ، وسمعت بعده خطوات سريعة غير منتظمة ، ثم صوتًا ناعمًا يقول فى غمرة سرور ونشوة مرح :
ـ صحيح ..؟!
ثم قرب وقع الخطوات وظهر أثرها على السلم وأنا واقف فى الفناء محير أذوب خجلا ، والخادم السوداء الملعونة لم تفكر مطلقًا إلا فى مرحها ، فلم تقدم لى كرسياً ولم تحيينى بكلمة ، وإنما وقفت أمامى ضاحكة وأسنانها البيضاء تومض بين شفتين غليظتين فى سواد الفحم ..
ولاحت على الدرج فتاة هيفاء رائعة الحسن بديعة التكوين ، فلما بصرت بى توقفت عن سيرها برهة ، ثم استأنفت هبوط الدرج على مهل وفى خجل ظاهر .. فلقد كبرت فى عينيها من أول نظرة فما كانت تتصورنى يافعاً فى هذا الجسم .. ولا فى هذا الطول ، والحق أن جسمى كان يكبر سنى بمراحل ..
وتصافحنا ، ومالت بى إلى غرفة قريبة على البستان ، وأخذت تسألنى عن أبى وأمى وإخوتى ودراستى ، والقاهرة وضواحيها وملاعبها ومسارحها ، وتعجب كيف أنى كبرت جدًا وتغيرت حتى غدوت رجلا ..
ثم قالت :
ـ أظنك تعباً معنى من السفر الطويل وتحتاج للراحة ..
والحق أننى كنت كذلك ، فصعدنا إلى الطابق العلوى ومهدت لى السرير لأنام ، فنمت حتى العصر ..
ولما قمت من فراشى أعدت المائدة للغداء فتغدينا ، واسترحنا بعد الغداء قليلا ، ثم قامت معى ترينى المنزل ، بعد أن تغير وأضيفت إليه حجرات ، وامتد حوله بستان وأطلت منه على الماء شرفات ، فطفت به حتى بلغنا السطح .. وكان واسعًا يحفه سور عال ، وفى ناحيته الشمالية المطلة على النيل غرفة أنيقة صغيرة كثيرة النوافذ .. لها شرفة مغطاة بالخشب لتحجب الواقف فيها عن أنظار المارة على الجسر ، وأثاثها فخم ولكنه حائل اللون باهت عملت فيه السنون ، وبها فوق هذا سرير وكنبة وصوان للملابس نصف بللوره مهشم ..!
ونظرت إلى إحسان وقالت وعلى شفتيها ابتسامة فاتنة :
ـ ستنام هنا ..
فقلت :
ـ ما أمتعها غرفة ..!
فأردفت ..
ـ وحدك ..!
فوجمت والمنزل مع رحابة جنباته واتساع أرجائه ليس فيه إلا جاريتان تقومان على خدمتها ، أما الخدم من الرجال فهم ، وإن كانوا كثيرين فى الاسطبلات والحقول فلا يسمح لأحد منهم بأن يلج باب المنزل مطلقًا ، فلقد كان الشيخ عبد المجيد والد إحسان يحرم على الخدم الاختلاط بالنساء ورؤيتهن كعادة الأسر الكبيرة فى الصعيد ؛ فإذا عنت للخادم حاجة ، وقف تحت فناء البيت وهتف بمبروكة أو فطوم ، ولهذا كان المنزل موحشاً يشعر الغريب بالوجل على أنها لما أضافت :
ـ أتخاف ..؟
قلت :
ـ طبعا لا ..
وجلسنا فى الغرفة نتحدث حتى ولى النهار ، وزحف الليل وهى مقبلة علىّ بوجهها ، وأنا مأخوذ بحلاوة حديثها حتى حان موعد العشاء ، فجلسنا نتعشى ، وهى قبالتى ، تقطع لى شرائح اللحم ، وتقدم الخبز ، وتملأ أكواب الماء ..! وتبالغ فى العناية بى وهى مشرقة جذلة .. وإذا رفعت بصرى عن الصحن إلى وجهها ، تمهلت فى مضغها ونظرت إلىّ باسمة وقالت :
ـ كل .. إنت مكسوف ..!
ـ أنا ..! أبدا ..
ولما فرغنا من العشاء أقبل علينا أقربائي من فتيان وفتيات وكانت منازلهم ملاصقة لمنزلها ، وجلسنا نسمر إلى أن قرب الليل من منتصفه .. على أنى شعرت أثناء وجودهم ببعض الضيق ..
ثم انصرفوا إلى منازلهم ..
وقالت إحسان :
ـ أنت تعبت هيا ننام ..
وسوت لى سريرى .. ونامت بالقرب منى على الكنبة .. وتبادلنا النظرات والبسمات ، حتى أخذنا النوم معاً ..
ونهضت فى الصباح الباكر تهئ طعام الإفطار ، فقد آلت إلا أن تعمل كل شيء بيديها ، وأنا أرقبها وهى تعمل البقلاوة ، وتصنع الفطيرة بالزبدة .. وتقلى العجة ودخان الموقد يحف بجبينها ويمر بشعرها فتلمع عيناها وتدمع ، ولكنها مع هذا كله كانت جذلة طروب ..
ـ ابعد عن الدخان .. مالك وهذا ..
هذا ما كانت تقوله لى ، وأنا جالس جنبها القرفصاء ، وقد بدا لى أن أشترك معها فى دحى الرقاق ، وكانت مبروكة فى ناحية منا تقلى العجة فى موقد من المواقد .. وراحت تجئ بالماء وتركت المقلاة على الموقد تغلى وتنش ، فلحقت بها النار فانقلبت المقلاة كلها ناراً صفراء ترمى باللهب القوى .. فتحولنا إليها ووقفنا واجمين ..
وجاءت إحسان .. وقد تغير لونها وعلت أنفاسها .. بسيخ طويل من الحديد وأرسلته إلى المقلاة ، ولكنها انزلقت عن حاجز الموقد الجانبى ، وانقلبت فى قاعه فطايرت من رشاش السمن الملتهب ما وصل إلى رجلى ، فأحسست بلذع الجمر ، ولكنى تماسكت وتجلدت فى شجاعة ..!!
ـ رجلك ..
ونظرت إلىّ ملتاعة ..
ووقفت مبروكة تصطك أسنانها ، وتجحظ عيناها ، وقد بدا لى أنها خرجت عن رشدها تماماً ..
وأمسكت مع إحسان بطرف السيخ ، ويدى على يدها لنخرج المقلاة من الموقد ، على أن إحسان جفلت وخافت من شر النار ، وقالت بصوت يرتعش :
ـ إذهب بعيدًا ..
ولكنى لم أذهب ..
ـ إذهب بعيدًا ..
ولا يزال صوتها راجفًا ، ولازالت تحذر وتنظر إلىّ نظرة عطف ، بعد أن عقد لسانها ، وعجزت عن الكلام ، وسحبنا المقلاة سويًا إلى خارج الموقد ، وبقيت بقايا السمن تنش وتئز بصوت مفزع ..
ولمعت ابتسامة باهتة على الشفة المختلجة ، وتألق بريق خاطف فى العين الدامعة .. ووضعت يدها على كتفى ورافقتنى إلى الطابق العلوى ..
ـ رجلك ..؟
ـ ليس بها شيء ..
فكشفت عن ساقى ، وهى خجلى ، وكان الحرق فى مقدم الساق ظهر فى خط أحمر يلتهب .. فوضعت يدها عليه ، وهى تتلوى ، ورفعت وجهها إلىّ ، وقد اخضلت عيناها بالدمع .. لقد كان عطفها علىّ غير عطف الأم وعطف الأب ، عطفًا جديدًا أشعرنى بسعادة لذيذة وأشرف بى على دنيا حالمة ..
وربطت الجرح بيدها البضة الناعمة ، وأنا أحس بنشوة غريبة هزت أعماق نفسى ، حتى لتمنيت معها لو كان جسمى كله جراحا ..
وبقيت فى الفراش يومين كاملين كانت فى خلالهما نعم الطبيب ..
ولما قويت على السير خرجت مع بنى عمها نطوف بالقرية ، فزرنا السوق ، وتمشينا على النيل ، وتحدثنا مع بعض الملاحين ، ورأينا مغرب الشمس فى النيل ، وهو أبدع مناظر الريف على الإطلاق ..
وقضيت معها بقية اليوم نتحدث ونلعب ألعابًا مسلية ممتعة ، حتى حان وقت النوم ، فقمت متثاقلاً ، وألقيت بنفسى على السرير ، ووقفت هى بجوارى تبتسم وفى عينيها بريق أخاذ .. وبعد أن رمت على جسمى ملاءة قطنية .. خففت ضوء المصباح ، ومضت إلى الأريكة لتنام ..
نمت نومًا هادئًا ، واستيقظت قرب الفجر ففتحت عينى ، فألفيت الظلام مخيماً لأن الهواء أطفأ المصباح ، ورحت أتقلب ، وأدفع الغطاء القطنى برجلى مرة ، وأرده علىّ مرة أخرى وأحلم حلم اليقظة وأفكر .. أفكر فى إحسان .. فلقد استيقظت ، وهى تحتل بؤرة شعورى ، وأخذت استرجع صورة أيامى الماضية .. وداع والدى ، وسفرى وركوبى الجواد إلى القرية ونزولى عند إحسان ، وحديثها الطلى وروحها الجذاب ، وحادث النار ولعبى مع الرفاق ، حتى بدت خيوط النور تتسرب إلى الغرفة من النافذة المفتوحة المطلة على الماء ، وهفا النسيم العليل وأرسلت مقدمة الفجر ألسنة الضوء الحمراء ..
وقمت برفق مخافة أن يحدث السرير حركة فتصحو ، فما كنت أود أن أقطع عليها سلسلة أحلامها اللذيذة ، ونزلت من فوق السرير ، ومشيت نحوها ولكن الظلام كان مخيفًا فلم أستطع أن أتبين من وجهها الصبوح شيئا ، وخفت أن أرتطم بها لو قربت منها ، فملت إلى النافذة ، وكان الماء يلمع فى ظلام الليل ، وقد بدا الأفق يذوب سواده وتشتد حمرته ، وأخذت النجوم تأفل متعاقبة ، وبقيت منها نجوم قريبة تستقبل الفجر وتتطلع إلى الصباح .. وزادت حمرة الأفق ، وخفت شدة الظلام ، ولمعت صفحة الماء ، وأخذ الماء يترنح ويرسل موجه الخفيف إلى الشاطئ ، وبدت فى السماء سحب خفيفة أخذت تتجمع عند الأفق الوردى ، وطارد الفجر الظلام ، وأرسل وراءه سهامه البيضاء حتى ارفض جبين الأفق كله عن لون اللجين .. وهب النسيم ، وتحرك الماء وصاحت الديكة ، وحلقت عصائب الطير ، وانطلق المؤذن فى القرية ، وبدا القرويون على الجسر وزاد الضوء فى الغرفة ووضح جبين إحسان ..
وحولت بصرى إليها وهى نائمة نوم الملائكة تحلم حلم الأطفال ، وقد غطت جسمها بلحاف أزرق خفيف بان منه وجهها وعليه خصل شعرها الغدافى الناعم ، وكانت أنفاسها هادئة ، وعيناها مقفلة وأجفانها مسبلة ..
ولم أر الشمس فى طلوعها وهى أبدع شيء فى القرية ، فقد اشتغلت عنها بإحسان .. وبصرت بالشعاع ينفذ من النافذة ويستقر على المرآة الصغيرة التى عكسته على فراشها ، وهى لا تزال مستغرقة فى النوم تتنفس تنفساً هادئًا ، ووجهها باسم قليلاً .. ربما كانت تحلم أحلامًا لذيذة وتسرح بعقلها الباطن فى دنيا الأحلام ..
وفتحت عينيها بثقل ، وكان أول شيء لحظته سريرى ، فلما لم ترنى عليه تغيرت ملامحها قليلاً .. ودارت ببصرها بسرعة فوجدتنى واقفًا أرقبها باسمًا ، فقالت وهى تنهض وعلى شفتيها أجمل ابتسامة :
ـ انت صحيت ..
نادت على مبروكة فلم تجب .. فخرجت من الغرفة وأنا وراءها فألفينا السوداء نائمة فى جدار الغرفة على لحاف قديم .. فوقفت عند رأسها وهتفت بها ، وهى تغط فى نومها ، فلم تحس .. فركلتها برجلها بعنف وهى ضاحكة .. فقامت الخادم مذعورة ..
ـ يوه .. يوه .. ستى ..!
***
ورأينا فى أصيل يوم جميل أن نتنزه ، عندما يقبل المساء ، فى زورق وما خيم الظلام حتى كان الزورق راسيًا عند الباب الخلفى للحديقة .. وخرجنا به أنا وهى وابن عمها صلاح ، وهو فى مثل سنى .. وخادمتها مبروكة وأجلسناها مع الخادم فى الخلف ، وأخذت أجدف أنا وصلاح .. ولقد كنت ، كما تصورت ، بارعًا فى التجديف للغاية ، وبدأنا نبعد عن القرية ، ونوغل فى اللج ونتعمق فى جوف الظلام فلقد كان القمر لم يطلع بعد ، ورأينا أن نمتع الطرف بطلوعه ونحن فى قلب الماء لنحظى بأبهى منظر .. وأعملنا الأيدى فى المجاديف حتى غابت القرية عن أبصارنا وقد لفها الليل فى جلبابه ، ولم يبد منها على مرمى البصر غير نور خافت ينبعث من بعض المصابيح القائمة عند بيت العمدة وما يجاوره من أبنية .. والواقع أنى شغلت بالتجديف عن إحسان لأن السباق بينى وبين ابن عمها كان عنيفاً جداً .. ولقد كان أصلب عوداً وأقوى ساعداً ، ولكنى كنت أبرع فناً وأحسن توفيقًا .. أجدف عن صنعة ، وهو يجدف عن فطرة ، ويتكل على ساعده ، وأتكل على مرانى .. فكانت الغلبة لى دائماً ، فأنا الذى أحول الزورق إلى ناحيته ، وكم صفقت إحسان وهى جزلة طروب ..
ثم تركنا المجاديف ، لما طلع القمر .. وخلينا الزورق يجرى كيف شاء ، وأخذنا نتجاذب أطراف الأحاديث بيننا ، وعيناى تلتقى بعينيها ، فأرى بريق السرور فى العينين النجلاوين ، وبسمة الرضا على الشفة القرمزية .. كم كنت سعيدًا فى ذلك الوقت كم شعرت فى أعماق نفسى بالسرور المحض ، وشد ما تمنيت لو خلا الزورق من خادمتها وابن عمها وبقـيت معها وحيدًا ، كنت أحس عند ذلك بإحساس غير الأول وبسعادة غير التى أحسست بها ..
فى غمرة الطبيعة الضاحكة ، وبين أحضان الريف الهادئ ، وفى الجو الطلق المشبع بالحرية ، وتحت سماء الصيف الزرقاء ، تتفتح النفس ويتحرك القلب ..
هل أحست وهى التى تكبرنى بأعوام ثلاثة ونحن نتلاقى بالأعين ونتضارب بالأيدى ، عن عمد ، بأنى أحببتها ، هل أحست ، ونحن نصعد درج البيت لننام ، بأنى كنت أود أن أقف معها فى جوف الظلام لأضمها إلى صدرى ، وأغمر شفتيها بلثماتى ..
ووقفت جنب سريرى قبل النوم مدة وهى باسمة ، ولما تلامست يدانا لتحية المساء ضغطت على يدها بعنف .. هل فهمت ..؟ أطرقت وعلت وجهها حمرة الخجل ، وانسحبت فى هدوء إلى فراشها ..
ومضى أسبوعان ونحن أصدقاء .. وكانت أشد الأوقات وطأة على نفسى هى الساعات التى أتغيبها عنها ملبيا دعوات الآخرين من أقربائنا وما كنت أود على شغفى بالسباحة ، وصيد السمك مع غلمان القرية ، أو ركوب الجياد على الجسر ، أو لعب الكرة فى السوق .. ما كنت أود على فرط ولعى بكل هذه الأشياء أن أبتعد عنها .. لقد كان يعترينى وأنا أصغى لأحاديثها ، وأستمع لقصصها إحساس غريب لذيذ ، يهز أعماقى ، وأنسى معه كل شيء حتى نشوة المرح التى تعترى راكب الجواد ، أو هزة الفرح التى تلازم صائد السمك ، أو فترة الحماسة التى تنتاب لاعب الكرة ..
وحمل إلينا البريد ذات صباح رسالة من والدى يطلب فيها عودتى إلى القاهرة .. وقرأت الخطاب والهم يعصر قلبى .. سعادة أيام تنقضى فى لحظة .. ولم أستطع أن أتبين الإحساس الذى اعتراها بالدقة ، وكل ما رأيته أن حركاتها تغيرت ، وحديثها فتر ، وابتسامتها غاضت ..
وأخذوا فى اليوم الثانى يعدون العدة لعودتى ، ففتحت إحسان حقائبى وأخذت تضع فيها ملابسى ، وأنا قبالتها أتفطر لوعة .. والخدم فى المطبخ يعدون هدية الريف لسكان المدينة ..
وبعد ساعة رأيت ، وأنا واقف عند النافذة ، جوادًا يسحب من الاصطبل ، ويتبختر نحو البيت فى مرح ، إنه ما كان يعلم أنه سيحمل سعادتى معه إلى الأبد ، وعلقت البصر بالجواد حتى وقف أمام الباب يضرب برجليه الأرض ، فاغرورقت عيناى بالدمع ، وارتددت عن النافذة فألفيتها قبالتى ترقبنى ساهمة شاردة ، فوقفت أمامها وقلبى يمزق ضلوعى ، ودمعى يتفجر من عينى ، وبقينا هكذا مدة طويلة وأنا ذاهب ملتاع القلب حتى أحسست بيدها على يدى ، وضغطت عليها وجذبتنى إلى الأريكة ، وأخذت تلاطفنى تفرك يدى مرة ، وتشد شعرى أخرى حتى ضحكت ..
وصرفت الخادم بالجواد حتى صباح الغد ..
ومضيت ليلة لا أنساها ما عشت ..
وتزوجت إحسان بعد ذلك بعامين .. وانقطعت بعدها عن زيارة الريف ..
=========================
نشرت القصة فى مجلة العروسة بالعدد 654 بتاريخ 2/2/1938 وأعيد نشرها فى كتاب " فندق الدانوب " سنة 1941
==========================
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق