الجمعة، 1 يناير 2010

بعد العرس

بعد العرس

عندما فكر " مختار " فى الزواج بعد سن العشرين مباشرة ، لم يجد من ذويه الاعتراضات الجمة التى تعترض غيره من الشبان ، صحيح أن جدته ، لعنها الله ، أدخلت أنفها الطويل فى المسألة ، ونعتت العروس بنعوت لا يمكن أن تصدر من سيدة محترمة مثلها ..! ولكن مختاراً قضى على كل تخرصاتها وأكاذيبها بدليل منطقى واحد ، وضع هذه العجوز الحمقاء على الرف ، وأقام حول العروس الجميلة نطاقا من الموانع ، وقد وصفها بأحسن ما يمكن أن توصف به امرأة ، وبرهن على ذلك بأدلة مادية محسوسة ..

وعلى الرغم من أن مختاراً كان شابًا مجربًا – كما يعد نفسه – فقد أخذ يتصور ، فى الأيام التى سبقت حفلة الزفاف ، أنه مقدم على عمل جليل الشأن عظيم الخطورة ..! صحيح أن له دراية بالنساء ، وأنه خالط ومازح وداعب ، فى مدى العشرين سنة التى تصرمت من عمره ، الكثير منهن ..! ولكن الزواج – كما تخيل – أمر يختلف عن كل هاتيك الأمور ، فليست المسألة مسألة دفوف تدق ، وموسيقى تصدح ، وباب يغلق على العروسين ، إنما هى أكثر وأعمق من ذلك بكثير ، ولهذا قضى الأيام القليلة التى قبل العرس وهو على حال من الاضطراب لا تحتمل .. وعلى الرغم من أنه شاهد العروس مرتين ، فى خلال تلك المدة ، وتحدث معها منفردًا فى الشئون العامة وتناول السياسة الدولية وحقوق النساء ، فإنه لم يستطع مطلقًا أن ينزع عن فكره خطورة الأمر الذى هو مقدم عليه وغموضه .. على أنه شوهد فى اليومين السابقين ليوم الزفاف مباشرة هادئ النفس قرير العين مثلوج الفؤاد ، حتى أنه أشرف بنفسه على تنظيم الغرف وإعداد الفرش ، وداعب – فى أثناء ذلك – بعض الخدم والحمالين وعمال الصوان ، وكتب بنفسه وخطه كثيرا من بطاقات الدعوة ..!

ولما مرت حفلة العرس بسلام .. قضى العريس الأسبوع الأول من شهر العسل فى المنزل ، وهذا عمل مألوف وشائع بين الشبان ، على أن العريس شعر بعد هذا الأسبوع الذى لا يدرى كف قضاه ، بالضجر المشوب بالندم ، وأحس بأنه سجين ، وأنه بدأ يتعذب ، وأنه كان عليه أن يكتفى بيوم واحد أو يومين على الأكثر ، فليس فى المسألة ما هو جديد وممتع على الإطلاق ..! وفكر – وأرمضته الفكر – فى حل يخرجه من هذه الورطة .. واستقر رأيه أخيراً على أن يتريض فى الضواحى ، واستحسن أن تصاحبه العروس فى هذه النزهة الجميلة ، وقبلت العروس مسرورة ، ودخلت غرفتها لتتزين وتتهيأ للخروج ..

ولبس الزوج ملابسه فى أقل من خمس دقائق ، وجلس فى البهو يقلب بصره فى صحيفة من صحف الصباح ، وينتظر فراغها من زينتها .. ومضت خمس دقائق ، وعشر .. وعشرون .. وهى أقصى مدة كان يقدرها ويمكنه احتمالها ، وبدأ بعدها يعيل صبره ويضجر ..! وسدد بصره إلى باب غرفتها المغلق .. وكان لا يرى داعيًا لإغلاقه ..! وأنصت مدة .. وتصور أنه يسمع حفيف ثياب حريرية تزل فى رفق عن جسمها الناعم ، حتى تجرد الجسم من كل ما عليه تمامًا ..! فخجل من هذا المنظر العارى ، وحاول طرده من ذهنه بكل الوسائل ، فأغلق عينيه ..! واستمر على ذلك مدة لا يمكنه تحديدها بالضبط ، ورفع رأسه على صوت باب قريب يوصد بشدة ، ومرت عليه الخادم ، وعلى ذراعيها ملابس مكوية .. وانسابت إلى إحدى الغرف .. وانتصب على أثرها ، وأخذ يتمشى فى عرض البهو ويقف من حين إلى حين على باب زوجته ويتسمع ..! وكان القلق قد استحوذ عليه بشكل عجيب ..! فعن له أن يهتف بها ، ولكنه عدل عن هذا الخاطر بعد أن رآه تدخلا مباشرًا فى شئونها الخاصة ، قد يجر إلى ما لا تحمد عقباه .. واكتفى بأن مد شفته وأخذ يتمتم ويزمجر .. واندفع الدم إلى رأسه ، بعد خمس دقائق أخرى ، وأحس بتراخ فى أعضائه وثقل وتعب أعقبته ثورة فجائية انتفضت له جوارحه كلها ، وهم معها بأن يحطم عليها بابها .. ولكنه تمالك نفسه ، وراح يزيد فى سرعة مشيته ويضرب بنعليه أرض البهو بصوت مسموع ..

ودار مصراع الباب ، وأطلت العروس ، فاهتز طربًا وطار من رأسه كل ما كان يزعجه ، ولكنه روع بعد ثوان بما سمره فى مكانه كالتمثال الأبله ..! فقد خرجت العروس لتنادى الوصيفة ، لأمر استبطأتها فيه ، وراعه وأدهشه وأذهله ، أنها لا تزال فى لباسها الأول ..!! وقف حائرا وعلى وجهه كل علامات الدهشة مجتمعة ..! يسائل نفسه :

ما الذى عملته المصونة فى مدة الثلاثين دقيقة التى خلت إذن ..؟ لعلها كانت تفكر فى انتقاء الثوب الموافق للصباح ..! ولم تقرأ العروس شيئاً مما على وجهه .. وكانت سطحية النظرة ككل امرأة .. ولهذا ابتسمت له فى دلال وخفر ، ودخلت غرفتها ، وتركت الباب فى هذه المرة مفتوحاً ..

وعاد مختار يذرع أرض البهو آسفاً حانقًا ، ويقف على بابها هنيهة كلما مر عليه ليرقبها وهى تسرح شعرها .. ولما انحنت لتلبس جوربها .. لاحظ لأول مرة أن فى ساقيها التواء ظاهرًا ، فامتعض لهذا جدًا ، وحول وجهه عن الباب ، وهو يعجب ويدهش من أنه لم يلاحظ ذلك من قبل ، مع أنه شاهد الساقين عاريتين عن قرب مراراً ..

وحاول أن يذكر حادثًا خطيرًا مر عليه فى حياته ، ليصرفه عن التفكير فى هاتين الساقين ، ولكنه لم يستطع أن يذكر حادثًا أشد خطورة من الزواج نفسه ..! وأخذ يرمق زوجه بجانب عينه ، ويرى فى كل حركاتها وسكناتها ، وهى تتزين وتجرى بالأحمر على شفتيها وخديها .. سخفاً لا يطاق .. وتصور أنها تتوانى فى زينتها لتتعمد غيظه وكيده ، فساوره خاطر كاد يدفعه إلى أن يدخل عليها الغرفة .. ويحطم كل أوانى الزينة ، وزاده غيظًا أن أشد الناس غباء يستطيع أن يلاحظ ما هو عليه من سوء الحال ، ولكنها لم تلاحظ شيئاً ، بل كانت تبتسم فى بلاهة ، وتتوارى عنه فى ركن من الغرفة ، لأنها خجلى من نظراته الحادة ..!

وخرجت تتهادى وتقول له بعينيها " ما أجملنى .. "

***

وهبطا الدرج صامتين ... وخرجا من شارع البيت إلى ميدان الحلمية .. وكانا قد قررا البدء بحدائق القبة ، ثم المطرية والمرج – إن أمكن – ولما كانت العروس لم تألف وجوه الناس الغرباء ، كما أنها لا تحب الجلوس وحدها فى مجلس النساء فى الترام ، فقد استقلا عربة إلى المحطة ، وجلسا يتحدثان ويتبادلان البسمات والنظرات ، ولاحظ مختار أن فى حديثهما على بساطته كلفة ظاهرة ، وأنه لأول مرة فى حياته ، يعير باله للمارين فى الطريق .. ويواجه نظراتهم بغيظ وحنق ..!

ولما بلغا محطة كوبرى الليمون ، كان القطار على الرصيف يدخن ، فأسرعا إليه ، وجلسا متقابلين فى أول مقعد مما يلى الباب ، وكانت العربة غاصة بالركاب تقريبًا ، ولم تبق إلا مقاعد قليلة خالية متناثرة هنا وهناك تنتظر الركاب الجدد ، وكان مقعدها أطول من مقعده ومعدُا لراكبين ، فكان مختار كلما دخل العربة راكب جديد يسارقه الطرف ، ويخشى شر جلوسه بجوار زوجته ..!! وكان يشتد اضطرابه وينخلع قلبه ، إذا وقف الراكب فى أول الممر ، وعينه على المقعد ، وبدا له أنه يشاور نفسه ، ودفعه القلق إلى أن يطل من النافذة ، ويراقب كل القادمين الجدد ، وأخذ مع مرور الدقائق يتضايق ويضجر ويتأفف ، ويتصور أن القطار يراوغ لتعذيبه وإيلامه ، وأن عيون الركاب – لسبب لا يفهمه – تحدق فيه ، وتسخر منه ، وتهزأ وتضحك أيضا .. ورأى شابين قادمين من بعيد ، وهما يتضاربان ويقهقهان .. وواحد منهما يجذب الآخر من طرف سترته ، ويحاول إيقاعه على الأرض ، فأحس لقدومهما بالخطر الزاحف ، ونهض بسرعة وجلس بجانب زوجته ، وتشاغل معها بالحديث حتى يمرا ، ودخل الشابان العربة ، ودارا ببصريهما فيها .. ثم جلسا .. واحد منهما أمام مختار دون تردد ، ودخل الآخر فى جوف العربة ، وشعر مختار أن كابوسًا ثقيلاً حط عليه فجأة ، فانقطع عن محادثة زوجته ، ووضع رجلاً على رجل ، وأظهر الاستياء والتذمر .. ومرت أكثر من دقيقة ، تحقق بعدها أن الراكب الجديد يبادل زوجته النظرات بشراهة ، وأن بصره كثيرًا ما ينحدر عن وجهها ليستقر على ساقيها ..

وبعض الأحيان يتطاول على فخذيها ..! فاحتقن وجهه ، وأحس بالدم الفائر يغلى فى عروقه ، وأخذ يرمى الراكب بالنظر الشرز .. وهذا لا يعيره باله ، ولا يحس بوجوده ، وإنما أخذ وهو باسم فى خبث – كما تخيل – يرمى عليه سحب الدخان الكثيف ، وزاد مختار غيظًا ودهشه أن زوجته كانت تبادل الراكب نظراته وبسماته ، وهى طروب ، ويكاد الدم يطفر من خديها ، وهذا أمر لم يحصل لها من قبل على الإطلاق ..

وتحرك القطار وكانت الدنيا فى صميم الصيف ، والهواء مع سرعة القطار شديدًا ، وباب العربة الزجاجى بالياً تنقصه المفاصل .. فأخذ ، كلما زاد التيار ، ينفتح ويندفع منه الهواء إلى داخل العربة بشدة ، ويرفع ثوب زوجته حتى ساقيها ، وبعض الأحيان يتمادى – إذا كان شديدًا جداً – إلى فخذيها ، فكان مختار يجن ويرمى زوجته بنظرات مفزعة ، والمسكينة تضطرب ، ويحمر وجهها ، وتضع يدها على طرف ثوبها ، وتنحنى على الأرض ، وينهض هو ليرد الباب ، ويكاد من الحمق يحطمه ، ويرتد إلى مكانه ، وتعود الزوجة إلى جلستها وهدوئها ، وهنا يهب التيار من جديد وينفرج الباب ثانيًا ليرتفع الثوب .. فاشتد سخط مختار وغيظه وبدت على وجهه أمارات التعاسة بكل معانيها ، وأخذ الراكب الذى أمامه يبتسم ويكتم ضحكاته فى صدره ، ورآه مختار فود لو يضاربه ويخنقه ويهشم له أنفه ، ولكنه ذكر موقف زوجته من هذه المعركة الحامية ، فكتم ثورته وجلس يدور ببصره فى العربة شاردًا ، فرأى الركاب جميعًا متحولين إليه ، وأنه غدا محط أنظارهم ، وموضع سخريتهم وضحكهم وتسليتهم فى الطريق ، فود من فرط التعس لو يبكى ..

ولما نزلا فى حدائق القبة ، ومشيا فى شوارعها ، كان الهم لا يزال جاثمًا على صدره .. وحادث القطار لا يزال ماثلا فى ذهنه ، فصمت واكتفى بالنظر إلى المنازل والحدائق والحقول البعيدة ، كما أنه لاحظ المارين وهم يأكلون زوجته بنظراتهم .. وكان أشد الناس نظرًا الشبان .. وحمله هذا على الصمت والتفكير ، فراح يذكر نفسه وهو يمشى فى الطرقات وحده هادئاً مسروراً لا يعنيه من أمور الناس شيء .. وكثيراً ما كان يحدث نفسه بصوت عال – متى سمحت الظروف – ويغنى أيضا متى طاوعته الحنجرة ، ويتغدى وهو ماش ، ويمص القصب أيضا ..

أما الآن فإنه لا يستطيع حتى التحدث بصوت مرتفع .. لأن عليه أن يحافظ على كرامة الزوجة المصون ، ويرعى التقاليد .. ولم تكن زوجته تعرف ما يدور بخاطره ويشغله عن الحديث معها ، ولاسيما وهما فى أول نزهة ، وفى شهر العسل أيضاً ، وحز فى نفسها هذا ، وبدت دلائل الحزن والكرب على وجهها ، وكان مختار يحدق فيها من حين إلى حين ويشمئز من الأحمر الصارخ الذى لطخت به شفتيها ونفضته على وجنتيها .. وتبين ، بعد طول النظر والتأمل ، أن وجهها جملة ينقصه الجمال الأخاذ .. فالجبين مثلاً ضيق .. والوجه مستطيل أكثر من اللازم ، والذقن بارز جداً .. ثم أرنبة أنفها ..! وهدبها وعيناها ..! ثم هى بعد هذا كله متناهية فى الغباء .. ومن سخرية الأقدار أنها تفكر كما يفكر هو ، وتشغل ذهنها بالتوافه من الأمور ..

ما الذى يمكن أن تفكر فيه المرأة ..؟ تغيير الثوب .. شراء المساحيق .. زيارة الصديقات .. حفظ النوع ..! المجئ إلى هذه الدنيا بمخلوقات شقية مريضة .. واء ، واء ، واء .. النسل ، أجل النسل ، وتصور نفسه وقد جاء كل عام بكتلة من اللحم والدم لا معنى لها ، فأحس كأن أحدًا يأخذ بمخنقه ويضغط على يافوخه .. وتخيل صياح الطفل وولولته فى حجرات البيت وإطلاق حنجرته طول اليوم بأعذب الأنغام ..! ولا أحد يستطيع أن يفهم علة بكائه .. مربية تدفعه فى عربة إلى الحدائق .. إلى جهنم بكل هذه الأشياء ، خدم ..! سيدى .. إلى جهنم الحمراء بسيدهم هذا إن أنجب .. وبسيدتهم هذه إن أنجبت أيضاً ..!!

وبعد أن أذهلته الفكرة ، رجع إلى نفسه ، ورأى أن يستعصم بالصبر ويسلم أمره إلى الله ، وبدأ يحادث زوجته فى اقتضاب عن كثير من الأشياء ، وراعه أنها بعد دقيقة واحدة انطلقت تهضب بالقول وتفيض وتسح وتسهب فى وصف التوافه من الأمور ، وتسأل أسئلة سخيفة لا معنى لها ، وتثرثر فى صبر عجيب عن أشياء لا تخطر على باله ، ولا يعرف عنها شيئاً على الإطلاق ..

وزاده هذا كله بلاء على بلاءه ، ومرت عليهما سيارة كبيرة من السيارات العائدة إلى القاهرة ، فأوقفها ، وأركبها فيها ، وركب وراءها وهى ذاهبة اللب من الحيرة ، وكان قد رأى أن العودة هى خير ما يمكن عمله خوفًا من تطور الحال بعد أن تتكشف أمامه عيوب زوجته – وهى كثيرة – وتبدو على حقيقتها وبشاعتها ، وجلسا فى مقعد خلفى وعينه على الحقول والأبنية ، والشمس فى صميم الضحى .. وأخذت العروس كلما مرا على منزل جميل أنيق تتمناه لهما ، وكان العريس يبادلها هذا الشعور على أن يكون المنزل – فى سره – له وحده ..! وسمع على غرة صياح طفل حاد ، فتلفت ، فرأى طفلاً على صدر سيدة فى ركن من العربة يولول ويصيح ويدفع رجليه ويديه بقوة ، فاستاء منه الركاب .. وعبثًا حاولت السيدة إسكاته بكل الوسائل .. وأخيراً انحنى رجل جالس أمام السيدة – ويبدو عليه أنه زوجها – وحمل عنها الطفل وضمه إلى صدره هنيهة ، ثم رفعه على يديه وأخذ يهزه ويدللـه .. وحدق مختار بشدة فى هذا المنظر الممتع ، وانطلق الأب يداعب الطفل ويربت على خده ويشد أصابعه ، حتى كف عن الصياح وأخذ يبتسم ويضحك .. ووضع مختار نفسه فى مركز هذا الرجل فكاد يغمى عليه ..! وراقب زوجته فغاظه أنها تبتسم ، وأن وجهها .. يفيض بالعطف والحنان على الطفل .. وأنها تود لو يسمح لها الرجل الغريب ويدعها تحمله على صدرها لحظة .. وابتسمت لزوجها ابتسامة ذات معنى وكأنها تقول له بعينيها " أنظر .. ما أحلى الأطفال ..! "

فارتعد لهذا وشحب لونه ، وحول وجهه بعيدًا عنها ، وصمت حتى نزلا من العربة ، وركبا مرة أخرى عربة إلى المنزل العامر ..

***

ودخل كل منهما غرفته وأغلق عليه بابه ، وكانت الغرفتان متجاورتين وبينهما باب صغير .. واضطجع مختار على كرسى طويل .. وهم الدنيا يحط على صدره ويدير رأسه كالرحى ، وأخذ يخفف من حدة أعصابه المرهفة بهز ساقيه .. وسمع فى غمرة كربه أنات وزفرات متقطعة عقبها بكاء شديد ، ينبعث من الغرفة المجاورة ، فأدرك أن زوجته تبكى .. وجلس فى مكانه غير مهتم أولا ، ولما اشتد البكاء أحس بسكاكين حادة تمزق أعصابه .. فنهض عن كرسيه ثائراً وتقدم نحو الباب ليضربها ضربًا موجعًا .. وهنا خف البكاء فتمالك نفسه واكتفى بأن ينظر من فرجه الباب ، فشاهد أبدع المناظر على الإطلاق .. رأى زوجته نائمة على السرير على بطنها ، ووجهها مدفون بين الوسائد ، ورجلاها تعملان زاوية مع جسمها المرتعش مع ضربات رجليها فى الهواء ، وارتفاع نشيجها الممزق لصدرها .. وبعث فيه المنظر مع ما فيه من إيلام .. كل ضروب الاشمئزاز .. فبعد عن الباب ، وراح يتمشى فى أرض الغرفة جيئة وذهاباً ، حتى أحس بخور وضعف وفتور ، فاضطجع على الكرسى ، وأخذ يهز رجليه وساقيه وهو يحس بتوتر أعصابه ، وضيق وطأة أنفاسه على صدره ، وتحسس بيده اليمنى علبة ثقاب كان يعرف موضعها من مائدة قريبة دون ان يحول رأسه ، وأشعل السيجارة ، ونفخ دخانها ، وهو مغمض العينين واستراح إلى وضع السيجارة بين أصبعيه .. وأخذ ينقر بيده اليسرى على حافة الكرسى نقرات منتظمة ، وعينه من وقت لآخر تستقر على وجهه فى المرآة أمامه ، وراعه أنه قد تغير فى ساعات قلائل تغيرًا يفزع .. ومرت عليه حوادث اليوم على بساطتها مجسمة مروعة ، وكان كغيره من الشبان المرضى بالأعصاب تروعه توافه الأمور ، وتفزعه حقائرها وتأخذ عليه مسالك تفكيره ووعيه ، وتهد كيانه وجسمه ، فلا يستطيع معها أن يفعل شيئًا على الإطلاق ، يجد نفسه معطل القوى فانى الجهود خائر العزم وكان الخاطر التافه يفزعه ويرمضه ، ويحمله على التفكير فيه يومًا ويومين وثلاثة ، ولا يبعده عنه ويخلصه من إساره إلا خاطر آخر جديد يتخذ هيئة الأشد خطورة ..

ولم يكن وهو جالس هكذا يفكر تفكيراً منتظماً ، أو يستطيع أن يوجه ذهنه إلى شيء معين بذاته ، فقد كان قبل الزواج مثلا يختلط بصديقين أو ثلاثة .. رافقوه قبل العرس إلى بعض الحوانيت .. ثم بأمه وهى تشرف بنفسها على إعداد الفطائر ، وذكر إخوانه الذين اعتذروا عن الحضور لأسباب قهرية .. ثم والد العروس بغطرسته التى لا مبرر لها وتطاوله على الكثير من الخدم بالسباب والشتم البذئ الذى لا يصدر حتى من أحقر أبناء الشوارع ..! على أن خواطره مع تضاربها ، وتنقلها ودورانها حول العرس لم ترتد مطلقًا إلى السبب المباشر للزواج مثلا .. وإنما كانت تحوم حول أمور تافهة حدثت فى يوم العرس بالذات .. فقد ذكر بوضوح أن مصباحًا كهربائياً تهشم ، وأن كرسياً من الكراسى التى حول الموائد قد تحطمت ساقه كذلك ، وأن تلميذًا من أقاربه صدمه خادم يحمل صحاف الطعام ، وصب عليه صحن ملوخية بما فيه ، فتلوثت حلته الجديدة التى أعدها للعرس ، وبكى التلميذ بكاء مرًا على الرغم من أنه حمل إلى مجلس السيدات ..! ورفض سماع المطرب .. وذكر أيضًا أن كثيرًا من المتطفلين على الأعراس أخذوا يشوشون على المغنى فى بداية الليل ، حتى اضطر على الاستعانة بثلاثة من فتوات الحى .. ونجحت هذه الطريقة فعلا .. ذكر هذا كله ولم يذكر مثلا أهم حادث فى تلك الليلة عندما أدخل على العروس ، وود من فرط الاضطراب والخجل لو تنشق تحته الأرض ..!! ولم تكن خواطره مع تفاهتها تبعده عن النظر إلى المستقبل المجهول بعين القلق ..! فقد أخذت طلائع المستقبل تبدو مع استحالتها قريبة الحدوث ..

وأحس بعد نصف ساعة من التفكير الملح المضطرب بالحمى تسرى فى جسمه ، فأخذ يرتعش رعشات عنيفة ، دارت معها أرض الغرفة فى عينيه ، وخفت حدة الأصوات فى الشارع ، وسكن كل شيء فى الحى ، ورفع ذراعه بعد مدة إلى جبينه ، ومسح العرق المتصبب .. ثم تحامل على نفسه حتى بلغ السرير وتمدد عليه ، وضم الغطاء على جسمه وهو يرتعد ، واصفر فى نظره كل شيء فى الغرفة .. وعاد العرق يتصبب ، وثقلت أجفانه ، ونام نوماً متقطعاً تتخلله أحلام مزعجة ، فيها صياح طفل ، وسقوط سيارة فى ترعة ، وعراك بين عروسين جرهما إلى المحكمة الشرعية ..! وفتح عينيه قبل المغرب ، وتململ فى الفراش ، وحاول النهوض فلم يستطع .. ورجع إلى نومه المتقطع وأحلامه المزعجة ..! وكان الجدال بين العروسين قد تطور واشتد فى الحلم حتى نطق الزوج بكلمة الطلاق ، وهو يصيح بأعلى صوته ، واستيقظ على الصوت ، وعصر عينيه وهو يفكر فى الطلاق تفكيرًا جديًا ..

=========================

نشرت القصة فى مجلة العصور بالعدد 2 بتاريخ 9/12/1938 وأعيد نشرها فى كتاب " فندق الدانوب " سنة 1941

==========================

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق