ليلة فى الحان
تعترينى فى كثير من الأحايين حالات نفسية أضيق فيها ذرعا بنفسى ، وأحس بثقل الحياة علىَّ ، أحس بالبيئة الخانقة المهلكة تأخذ بمخنقى وتكتم أنفاسى ، وأشعر بأنى سجين معذب يعانى آلاما لا حد ولا نهاية لها ..
تأخذ الدنيا الباسمة المشرقة تظلم فى عينيى ، ويستحوذ الضجر والقلق والنفور علىَّ ، وأحاول عبثا أن أعرف علة هذه الأحزان ، أحاول عبثًا أن أعرف الباعث الدقيق الخفى على هذه الأزمات الشديدة المضنية فلا أستطيع ولا أوفق ، ولا أزداد بعد البحث إلا غما وكربًا ..
فى هذه الأوقات العصيبة أشعر بحنين بالغ إلى التشرد ، أشعر بشوق ملح يحملنى على أن أتخطى القيود والموانع ، وأتحرر من الأغلال ، وأدوس بقدمى على التقاليد البالية ، فأبرح منزلى فى أى وقت من الليل ، حتى فى الساعات الأولى من الصباح ، وأجوس خلال الشوارع وأضرب بقدمى فى الأزقة الضيقة على غير هدى ولا دليل ولا قصد .. أرسل نفسى على سجيتها ، وأفتح صدرى لهواء الليل الساجى ، وأبعث بصرى فى قلب الظلام المخيم ، وأستأنس بالوحشة ، وأستريح إلى رهبة الليل وسكونه وهوله ، وأشعر بعد ذلك بالراحة التامة المطلقة ، أشعر بأنى غدوت حرًا طليقا يخرج بجسمه ونفسه وحسه عن الدائرة الضيقة المميتة ، ويحلق فى الفضاء الفسيح ..
أشعر بالسعادة العميقة تفيض على جوانحى ونفسى ، وأتقدم فى طرقات المدينة سعيدا جذلا طروبا ، ثم أخرج منها إلى أحضان الطبيعة وأتوغل فى أعماقها ، وأسير محاذياً للنيل ، وأعبر الكبارى والسدود وأجتاز الحدائق والبساتين ، وأنا ممتلئ نشاطا وقوة .. ثم أعود فى أخريات الليل إلى الشوارع الهادئة فى الأحياء الأفرنجية ، وأميل إلى حاناتها ، أغشى الحان الذى يروقنى لأريح جسمى ، وأهدئ من ثائرة جوفى بعد الرياضة الطويلة فى الخلاء ..
ألج أى حان من هذه الحانات الصغيرة التى تسدل على واجهاتها الستر الحريرية الزرقاء .. ويتعاقد فى سمائها دخان التبغ ، ويعبق جوها برائحة الكحول ، وأشعر فيها بأنى انتقلت عن هذا العالم الفانى بضوضائه وضجيجه وصخبه ، إلى حيث الهدوء التام ، والسكون الشامل إلى الحد الفاصل بين دار الأحياء والموتى أشعر بأنى قريب من الموتى من سكون الرمس ، حتى فى الساعات التى يرتفع فيها صوت السكارى وهم يتمايلون على الطاولة الرخامية ، ويرفعون عقائرهم بالغناء الصاخب ، راقصين ضاحكين مرحين ، حاسبين أن الدنيا بأسرها ترقص معهم وتغنى لغنائهم ، حتى فى الأوقات التى يفيض فيها هؤلاء المساكين بفنون الأحاديث ، ويتحدثون عن آلاهم وأحزانهم ، تحت تأثير عقلهم الباطن ، مع من يعرفون ومن لا يعرفون من الناس ، فى هذه الحانات الصغيرة تنمحى الحوائل والفوارق بين الناس ، ويشعر كل إنسان بأنه صديق حق لمن يجاوره ، فيحادثه ، ويكشف له عن مكنون صدره ودخيلة فؤاده .. أشعر فى هذه الأوقات شعورًا حقا بقيمة حياتى ، أشعر بأنى أعيش لنفسى ، بأنى وجدت فى هذه الحياة الدنيا لأنعم وأتمتع وألتذ بأطايبها وملذاتها إلى أقصى ما يتمتع به إنسان ، وأضحك مع الناس وأقهقه وأغنى ..
ودخلت حانًا من هذه الحانات الصغيرة فى ليلة من ليالى الشتاء ، وكان ضيقًا مستطيلا ونوره الأحمر خابيا كابيًا ، وهذا ، زاده فتنة فى ناظرى وسحرًا .. وكان خاليا تقريبًا إلا من بعض الشبان الفقراء .. جلسوا يحتسون الخمر فى ركن قصى منه .. وكان عند رخامة الحان الطويلة خمسة من الرجال من بينهم ثلاثة من ذوى الأسنان ، تعرف من هندامهم القذر ، وشعرهم المرسل على جباههم ، وعيونهم الحمراء الدامية ، أنهم غارقون فى الشراب إلى الأذقان ، وكان أقرب الجالسين إلىَّ شاب يرافق فتاة صفراء نحيلة من الفرنجة عليها طابع الهم والشقاء ، ويعلو وجهها ظل الموت الزاحف ، وكانت هى الفتاة الوحيدة فى الحان إذا استثنينا تلك الفتاة السمراء القصيرة الجالسة على الباب ، مستقبلة الداخلين ومشيعة الخارجين بابتسامة لا معنى لها ..
جلست فى ركن منعزل من الحان ، وأنا تعب مكدود معنى وطلبت كأسا من الخمر ، وشغلت نظرى بقراءة الأوراق الملصقة على الزجاجات الموضوعة على الرفوف أمامى ، كان القلق رغم المشى والتنزه فى قلب الطبيعة ، لا يزال يهيمن على كيانى ووجدانى ، ومضى علىّ أكثر من نصف ساعة وأنا جالس وحدى ، أفكر وأتخيل ، وأرسم على دفتر امامى دوائر وخطوطا واكتب بضعة أسطر وأمحوها ، وفرغت من شرب الكأس وطلبت غيرها ، بعد أن أحسست بالصداع يصدع رأسى ، وتراخت أعصابى وثقل جسمى ، فاضطجعت على الكرسى ، وأرسلت بصرى فى سماء الحان ، وأخذت استعرض فى ذهنى الحادثات التى مرت بى فى سنى حياتى ، وشغلت جانبًا من تفكيرى ووقتى .. فكرت فى الأصدقاء فى المدرسة ، فى رفاق الحداثة .. فى المخلوقات العزيزة الحبيبة التى يضرب ببننا وبينها الدهر ، ويبعدها عنا الزمن فى كل ما يسر ويسوء فى هذه الحياة الدنيا ، فكرت فى هذا كله ، وأنا أرفع عينى إلى سقف الحان ، وبصرى سادر حالم ، والكأس الدهاق يتصاعد منها الحبب ويرغو ..
وخفضت طرفى ونفضت به جوانب الحان ثم رددته إلى المائدة التى تجاور مائدتى ، فلمحت فتاة جالسة إليها ، وكان ظهرها إلىّ ووجهها إلى الباب ، فأبعدت وجهى عنها أول ما رأيتها .. فجيرتى لأى إنسان .. حتى وإن كان امرأة ، فى ساعة كهذه مما يزيد فى همى وشجنى ، ويرهف أعصابى .. وشعرت بعد دقائق بالضيق يشتد ويتمكن ، فرحت أنقر بإبهامى على المائدة ، وأدير الكأس فى راحتى ، وأوجه عينى الحمرواين إلى الباب .. وأود لو أنفذ من خلال الستر وأخلص إلى الطريق وأتسلى بالنظر إلى المارة ، ثم عن لى أن أغادر الحان وأستأنف تجوالى فى الطرقات .. فقد كان قلقى لا يحتمل ، كانت عيناى لا تقويان على المطالعة .. وشفتاى لا تستسيغان الكأس ، وأنفاسى لا تعب من جو الحان .. بيد أنى أحسست بخور وثقل فى جسمى ، وعجزت عن النهوض ، فاعتمدت بمرفقى على حافة النضد ، ووضعت رأسى على راحتى ، وأطرقت مغمض العينين كالمستغرق فى النعاس .. وبقيت هكذا مدة طويلة والفكر تدور فى رأسى وتصطخب حتى استيقظت على صوت ناعم قريب منى خيل إلىَّ أنه ينادينى .. فرفعت رأسى وتلفت فألفيت الفتاة التى لمحتها من قبل تحادث الساقى ، وكانت قد استدارت بالكرسى وواجهتنى ، وكانت عيناى سابحة فى سحب من الهم فلم أستطع أن أتبين ملامح وجهها لأول نظرة ، ثم انقشعت الغشاوة عن بصرى بالتدريج ، ورأيتها لأول مرة وهى تنظر إلىّ بقوة ، وقد لفت نظرها شرودى ووجومى ، وتبادلنا النظرات .. وبقيت أحدق فيها دون وعى ، هنيهة ، وشعرت بعد هذه النظرة بالحوائل والموائد التى كانت بيننا تنمحى فى لحظة ، شعرت بأنى أعرف هذه الفتاة من المهد ..
كثيرًا ما نرى أناسًا لأول مرة ، ونحس معهم بعد أول مقابلة وأول نظرة بأننا نعرفهم من زمن بعيد جدًا إلى أقصى ما يحصيه عقل إنسان ، وهذا ما حدث لى بالدقة أول ما رأيتها ..
وسددت طرفى إليها ، وأنا ذاهل شارد ، وقتًا لا أحصيه .. ثم أغرقت عينى فى قرار الكأس بعد أن تصورت نظراتى تثير اشمئزازها .. ولم يكن يعنينى فى ذلك الوقت شعورها نحوى ، لم أفكر هذا مطلقًا ، لم أفكر فى محادثتها أو معرفة أى شيء عنها .. كانت ككل فتاة تمر علىّ وتسترعى انتباهى وتبقى صورتها برهة فى ذهنى ، ثم تختفى وتضيع مع مثيلاتها .. وشربت جرعة من الكأس ونظرت إلى وجهها الأبيض المشرب بالحمرة الخفيفة الذاهبة .. وأحسست بجسمى يهتز.. وبقلبى يرتجف بشدة .. وتلاقت أعيننا مرة ثانية .. لا .. هاتان العينان السوداوان الساجيتان اللتان تشعان الإشراق والسحر والنور لا يمكن نسيانهما بسهولة ، ستبقى صورتهما هنا مطبوعة فى ذهنى إلى الأبد ، إنها تغايران العيون التى شاهدتها وألفتها ، قرأت فى أعماقها شيئا غريبًا غامضًا لم أقرأه فى عينين بشريتين من قبل .. وأجالت طرفها فى جوانب الحان ، وأخذت فى خلال ذلك أتفرس فى جسمها الفائض سحرًا على ثوبها السنجابى الصوفى المزرقش ، وشعرها الأسود المرسل وراء جيدها الطويل الأتلع ، وقبعتها الرمادية المائلة على جبينها المستوى المشرق ، وهدبها المسبل على عينيها ، وشعرت بعد ذلك بشعور لذيذ ، انتشت له جوارحى ، وتفتحت نفسى ، وانزاحت الغشاوة عن بصرى ، وذاب الهم فى صدرى .. نسيت الوجود بمشاغله وأحزانه ، وفكرت فيها وهى جالسة على قرب منى ، وعليها ذل الفقر وعناء الشقاء الشديد .. وأحنيت رأسى مدة ، ثم رفعت وجهى نحوها ، وتبادلنا النظرات فى هذه المرة أكثر من نصف دقيقة كاملة .. شعرت بأنى أتضعضع أمامها ، وأفنى بكليتى فيها ، فى نظرات عينيها ، فى السحر العجيب الفائض من وجهها ، وكانت نظراتى نظرات المأخوذ بسحر جديد لم يألفه ، لم تكن كأولئك الفتيات اللواتى تبدو عليهن مظاهر الخلاعة أول ما يأخذهن الطرف ، بل كانت رغم حياتها المضطربة محتشمة ساكنة ساجية الملامح جدًا ، تتحدث عيناها وشفتاها بما تنطوى عليه نفسها .. نفسها الغاصة بالكرب المثقلة بضروب الإيلام ، ومع هذا كانت تبسم من حين إلى حين بسمة خفيفة شاحبة لا تعبر عن سرور باطن .. ورفعت الكأس إلى شفتى وأفرغته كله فى جوفى ، وتنفست بصوت مسموع ، أرسلت زفرة حارة من صدرى ، كان جوفى يغلى بتأثير الكحول الحامية ، ونفضت رأسى وعصرت عينى ، وتحولت إليها ، فرأيت دلائل الاستغراب مرتسمة على ملامح وجهها ، ولعلها كانت تعجب لصمتى وسكونى ، وتدهش لوجومى وأنا فى وفرة الشباب والفتوة ..
وكانت رغم بياضها مصرية الدم والنظرات والبسمات ، تنفرد بوجه إنسانى تعبر ملامحه عن اسمى النفوس البشرية وأنقاها ، وهذا ما جذبنى إليها ، ورفعنى عن مستوى الناس وتقاليدهم وتفكيرهم .. وجعلنى أفكر فيها بقلبى .. وراعنى أنها نهضت عن كرسيها واستوت على قدميها وخطت نحو الباب ، وهى تسوى ثوبها وشعرها ، وأذهلنى انها لم تلتفت إلىّ ، ولم تعرنى بالها ، وتصورت أنها تجاهلت وجودى عامدة ..!! وبقيت بعدها شاخص البصر واجما ، لا أحس بشيء مما حولى ، ولا أستطيع أن أحدد انفعالى وأوضح مشاعرى ورغباتى .. ثم انسللت من الحان وأنا أشد الناس عذابا وألما ..
***
كثيرا ما ألتقى بفتيات أشغف بهن بعد أول نظرة ، وتبقى صورهن واضحة فى ذهنى أياما ، ثم تصرفنى عنهن الأيام ولا أعود أذكرهن بعد ذلك أبدًا .. على أننى لم أستطع فعل هذا مع فتاة الحان ، فلقد بقيت صورتها ماثلة أمام نظرى أينما رحت وغدوت وحللت .. بقيت كما شاهدتها أول مرة ، والابتسامة الخفيفة الشاحبة تخطف على شفتيها كما يخطف البرق فى ظلام وليل ، وكان الشوق يتسعر فى أعماق نفسى ويسوقنى إلى الحان لعلى أراها ، ولكننى كنت كلما لمحت بابه من بعيد ، أحس بقلبى ينتفض بين ضلوعى ويمزق صدرى .. وأقف شاردًا وجسمى يرتجف ، ورأسى يدور ، والنور يتراقص أمامى .. والعرق البارد يتصبب على جبينى .. كنت أشعر بحنين ممزوج بالرعب والذعر الشديدين ، فأنتفض وأفرق وأرهب الحان ومن فيه ، وأعود أدراجى سائراً على غير هدى كالشريد الطريد ، تتقاذفنى الحوارى والأزقة متخبطًا فى جوف الظلام ..
وتشجعت ومررت على الحان مرتين فى ليلتين متعاقبتين ولكنى لم أرها فيهما .. فكدت أجن .. ودفعتنى قدماى فى ليلة من الليالى إلى الشارع الذى فيه الحان ثم ألفيت نفسى .. دون وعى .. جالسًا إلى المائدة التى جلست عندها فى المرة الماضية .. واسترحت على الكرسى ، ووليت وجهى شطر الباب ، بعد أن جمعت حواسى كلها فى نظراتى المعلقة بمصراعيه .. وكلما دخل داخل قفز قلبى ، وارتعش جسمى ، وانتفضت جوارحى وكانت الساعة تقرب من التاسعة ، والليلة باردة ظلماء ، شديدة الريح ، ومع هذا فقد دفعت الكرسى خطوة إلى الأمام ليخلص بصرى إلى الطريق .. كنت أود أن أكون أول من يراها وهى قادمة من بعيد ، وأول من يلمح ثوبها ، وكنت على يقين راسخ فى أعماقى بأنها ستأتى ، ونفذ بصرى من فرجة الباب المثنى وامتد إلى الشارع ، واستقر على بقعة بعيدة هناك .. فى ميدان سليمان باشا ، تخيلتها قادمة منه ، وبقيت على ذلك الحال أكثر من ساعة وبصرى مستقر على الميدان لا يتحول عنه ولا يطرف ، وروحى تفور داخل نفسى ، وقلبى يزداد وجيبه كلما رأيت ثوبًا سنجابياً يلوح عن بعد ويمضى .. وانحصر نظرى فى المرأة فقط ، وأغلقت كل الصور الأخرى التى تمر فى الطريق .. وتراقص الضوء وماج الناس واضطربوا ، واختلطوا ثم غابوا عن نظرى ، وأصبحت لا أرى إلا ثوبًا سنجابياً يلوح ويمضى .. يبدو عن بعد ثم يختفى ، يا للعجب اختلط على ذهنى المحموم ، وتغشانى الهم ، وأصبحت لا أرى إلا ثوباً سنجابيا يبدو من بعيد فإذا قرب منى ضاع فى زوايا الطريق وولى ..
تحولت عن الطريق وأغمضت عينى .. ضاع كل أمل فى مجيئها ، وقرب الليل من منتصفه ، ومرت بى ساعات ثلاث قضيتها فى جحيم وعذاب وقلق .. لم أعرف فى حياتى مرارة الانتظار كما عرفتها فى تلك الليلة .. وخيل إلىّ أنى واعدتها وأنها أخلفت وعدى ، ولهذا كان شعورى بالتعاسة والخيبة لا يصور .. واختفى الطريق وخيم الظلام والسحاب على الحان ، وسبحت بكليتى فى سواد كثيف ولم أعد أرى شيئًا .. ثم رجعت لرشدى ونقدت الساقى .. وتحاملت على نفسى ، وتقدمت ، وأنا أميد من الشجو تجاه الباب . ودفعت مصراعه الأيسر فقاوم ثم استلان ، وأزحت الستر وتخطيت العتبة ، فإذا بى أصطدم بها !! يالله !! وقفت عدة ثوان أرميها بعينى مجنون ، وأحسست بموجة من الغضب تجتاحنى فتطاير من عينى شرر يصهر الفولاذ ، وماتت قبضتى فى حديد الباب ، وسمرت فى مكانها مروعة ، وقد طير منظرى المرعب صوابها ، وخلصت أنفاسى وانطفأ وهج عينى وهبطت حرارتى .. وبرقت عيوننا معًا ببريق غريب .. ثم اختلج طرفها وأسبلت جفنيها ، وأحسست بأنفاسها تروح على وجهى .. ثم رفعت أهدابها ونظرت إلىّ نظرة طويلة جمعت فيها كل ما يمكن أن تقوله امرأة لرجل ، ولاقتها نظراتى فى ثبات وصمت ، وكان فى هذه النظرة الطويلة الكفاية .. فأفسحت لها الطريق ومضيت فى الشارع ، وأنا أصفر وأغنى ..
***
ورأيتها ذات ليلة جالسة فى ركن من الحان مع فتاة فى سنها ، فاتخذت لنفسى مكانًا يقرب منها .. ولما رأتنى ابتسمت فى سرور وغبطة ، وشاع فى كيانها المرح فرن ضحكها الموسيقى فى أرجاء الحان ، وكان له وقعه فى قلبى .. وبارحت الحان وهى ترمينى بنظراتها ولم أشعر بعد فراقها بألم ولا حزن ، بل كنت على أحسن حال ، وأتم سرور ..
وأصبح الحان بعد هذه الليلة من ضروريات حياتى ، كنت أدلف إليه فى الساعة الثامنة من كل مساء ، وأبقى فيه حتى تنقضى ساعتان من الصباح ، وكانت الفتاة تجئ أحيانًا فى التاسعة ، وأحيانًا فى العاشرة ، وتبقى إلى نصف الليل .. ولم أحاول طوال هذه الساعات محادثتها ، فقد كان الاضطراب والخجل يعقدان لسانى ..!!
وجاءت مرة قبل ميعادها بساعة ، والحان خال من رواده تقريبًا ، وحيتنى بابتسامة فاتنة ، وخلعت قبعتها وجلست على كرسى يلاصق مائدتى .. وحملنى قرب جسمها من جسمى على أن أبعد عينى من سواد عينيها ، وأن أخفى اضطرابى بأى سبيل ، ففتحت كتابًا معى ، ومضيت أقلب صفحاته .. واستغرقت فى المطالعة حتى استيقظت على صوت جاف خشن دوى فى جنبات الحان ، فرفعت رأسى ، فرأيت بائع أوراق " النصيب " واقفًا أمامها يدفع لها ورقة ويحملها فى خشونة على شرائها .. وسمعت صوتها الناعم الفضى النبرات ، وهى تصرف الرجل بالحسنى ، ورأيت الحياء .. الحياء الشديد الذى لا يظهر على وجوه الكثيرات من بنات الأسر يغمر وجهها ، ويلون وجنتيها بلون الجمر ، والبائع الجلف لا يزداد مع الحياء إلا جرأة .. فأشفقت عليها ، وناديت الرجل ، فتحول إلىّ وتناولت منه ورقة ، وأخذت أحادثه لتعود الفتاة فى خلال ذلك إلى هدوئها .. ثم مددت يدى نحوها فى اضطراب ..!! ورجوتها أن تجذب بيدها الجميلة ورقة .. فرفعت وجهها فى استغراب وترددت وابتسمت .. وصوبت عينيها فى أعماق عينى ثم قالت بصوت خافت :
ـ ولكنى منكودة الحظ .. أو كنت على الأقل كذلك ..
وانقطع صوتها .. وشعرت بكلماتها الأولى تسحق قلبى .. ورأيت وجهها يرتفع عن الورق ويستقر على شفتى .. كانت تود أن تعرف أول كلماتى .. كنت أود أن أقول لها شيئًا لم أقله من قبل ، ولكنى أحسست بلسانى يقف فى حلقى ، وتداركت نفسى وقلت فى صوت خافت متهدج :
ـ أرجوك أن تتناولى ورقة ..
فمدت يدها الرخصة .. وأمسكت بالورق وأخذت تقلب فيه ، وتتفرس وتفكر وتحلم .. وأناملها الدقيقة فى أثناء ذلك تنتفض .. ثم قدمت لى ورقة ، وهى تضحك ، وغمغمت بشيء لم أسمعه ..
ونقدت الرجل لينصرف ، أحسست بأن وجوده يضايقنى ويفسد علىّ سعادتى ..
وبقينا صامتين مدة فى ارتباك وخجل ..!!
ثم سألتنى فى صوت خافت ، وقد أشرقت صفحة وجهها :
ـ سكير ..؟
ـ معاذ الله ..
ـ لماذا تجئ إلى هنا كل ليلة إذن ..؟
ـ كل ليلة ..! ما كنت هنا أمس ولا قبل الأمس ..
ـ ولكنى أراك كل يوم ..!
ومالت بعنفها إلى اليسار قليلا وأظهرت كل أسرار قلبها فى صفاء عينيها .. ثم فتحت شفتيها الرقيقتين الحالمتين لتفسح طريق أنفاسها ..
وسألتها وبصرى يضطرب مع خلجات شفتيها :
ـ أين ..؟ أين شاهدتينى .. ؟
ـ رأيتك سائرًا فى الطريق .. أو دائراً فى قلق وحيرة حول الحان ، كأنك تبحث عن شيء عزيز فقدته .. لماذا تفعل هذا ..؟
ـ كنت أبحث عن وجه إنسانى ..
ـ ووجدته ..؟
ـ أجل .. أخيراً ..
وظهر فى عينيها الدهش مختلطًا بسرور النفس وابتهاج المشاعر ..
وسألت بصوت لا تسمعه أذناها :
ـ أين ..؟
ـ هنا ..
ـ ها .. ولماذا تبحث عن الوجوه الإنسانية .. أأنت رسام ..؟
ـ أجل .. وكيف عرفت ذلك ..؟
ـ قرأت فى عينيك آيات الفن ..
ـ شكَراً ..
ـ أهذا ثناء ..؟
ـ بالطبع ..
ـ آسفة ما كنت أقصد هذا .. ما أجهلنى ..!
ـ على أى حال شكراً ..
ـ ولماذا كان هذا الوجه السعيد إنسانيًا .. لماذا يتميز عن وجوه الناس ..!
ـ لأنى كلما رأيته ، أنسى ضعف الناس وضعف نفسى ..
وأدرك تلك القوة الخفية التى تحركنا وأضع الحياة بخيرها وشرها فى ميزان واحد ..
ـ وإذا غاب عنك هذا الوجه ..
ـ أرتكب كل حماقات الناس أجمعين .. وأكون كأشد المتزمتين منهم سخفًا وحمقا ..
ـ أتحبه إذن .. آه .. آسفة .. أتحب أن تراه دائما ..؟
ـ فى كل لحظة وحين ..
ـ فى كل لحظة وحين ..
ـ لماذا ..؟
ـ لأنى أقرأ فى عينيه شيئًا غريبًا غامضًا يرتجف له قلبى ..
ـ أتجالس النساء كثيرًا ..؟
ـ لماذا ..؟
ـ لأنك ثرثار ..!
ـ آسف .. لقد أزعجتك بفلسفتى الجوفاء ..
ـ هذا صحيح .. والآن أصمت واشرب نخب صحتك وصحة الوجه الإنسانى ..!
وسألتنى بعد لحظات :
ـ لماذا كنت تحدق فىّ بشدة أول ما رأيتنى ..؟
ـ كنت أحاول أن أذكر أين قابلت هذا الوجه وهاتين العينين ..
ـ وتذكرت ..!
ـ نعم أخيرًا ..
ـ قابلتنى أنا ..!! وفى أى مكان ..؟
ـ من زمن بعيد جدًا .. قبل أن توجدى ..
ـ أوه .. صه ..
ووضعت يدها على فمى ..
وانطلقنا نتحدث ، ونتبادل النظرات والبسمات فى سكون وتأمل ، ولم أسألها بعد ساعة من الحديث الممتع عن اسمها كما أنها لم تسألنى عن اسمى .. أقبلت بوجهها على وجهى .. ويدها مستريحة على طرف المائدة فأمسكت بيدها لأول مرة ، وشعرت بلذة عنيفة قوية تتدفق مع دمى ، وضغطت على يدها فى قوة وحرارة .. كنت أود أن أعبر لها من أقصر طريق عما تكنه جوانحى ، ويحمله قلبى ، وكان وجهها الساكن الهادئ الجميل يكتسى بحمرة الشفق ، ويذوب لونه ويرف على خدها فيزداد نضارة ويزهو ، وكان شعرها بعد أن خلعت قبعتها ، يكون هالة فاتنة لجبينها ووجنتيها ، وينسدل مرارا على عينيها ليحجب عنى بريقهما ونورهما ، فكانت تدفعه إلى الوراء وهى تهز رأسها ، وتبتسم أعذب ابتسام وأفتنه ..
مرت علىّ وأنا جالس معها لحظات لن أنساها ما عشت ، اختلستها من غفوة الزمن وأراها لا تعود .. مرت علىَّ فى سرعة البرق .. وأنا مأخوذ بسحر جمالها .. صور حياتى كلها من اللحظة التى وجدت فيها حتى التقيت بها .. ما أغرب المصادفات ، إنها التى تخلق الأشخاص حقا وتغير سيرة حياة الإنسان كذلك ، لم أكن أعرف وأنا أدخل الحان فى غلس الليل وسكونه أنى سألتقى بأعز إنسان فى حياتى .. بالمرأة الوحيدة التى أحببتها .. المرأة الوحيدة التى شعرت معها بأنى إنسان يعتز بإنسانيته ووجوده ، ويعرف قيمة حياته ، ويقدر مصيرها ، لقد كانت حياتى قبل أن ألتقى بها تسير على منوال أليم معذب .. كنت كمن يعيش فى صحراء جرداء ولا رفيق ولا أنيس ، كنت كمن يعيش فى مغارة سحيقة فى أعمق طبقات الأرض حيث الظلام والفناء والعدم ، أرزح تحت ثقل الوحدة المميتة ، وأفنى حيويتى ، وأشرب أحزانى ، وأعصر قلبى وفكرى ، وأشعر بأنى أسير نحو الفناء ببطء .. أسوق نفسى إلى حتفى .. كانت أعصابى بعد مطالعاتى المستمرة ، وعملى كرسام قد وهنت وضعفت .. وتداعى معها جسمى ونشط تفكيرى ، وسبح خيالى فى لجج من الهم ، وتراكمت الخواطر على ذهنى المحموم .. كنت واقعًا تحت تأثير خواطر عاصفة ، أتعذب لعذاب الناس ، واتألم لآلامهم ، وأشقى لشقائهم وبؤسهم ، أرى الفقراء إخواننا فى الإنسانية يشقون ويتعذبون ويتساقطون حولنا تساقط الفراش حول اللهب ، ونحن لا نفعل شيئا لأجلهم ، لا نفكر فى إسعادهم وانتشالهم من بؤسهم وفتح أبواب الحياة لهم .. كان نظرى إلى المرضى والضعفاء والمساكين ، والذين قست عليهم الحياة وشردهم المجتمع ، ولفظتهم الإنسانية ، كله عطف وإشفاق على مصيرهم ومآلهم ..
قضينا فى الحان أكثر من ساعة ونصف ساعة فى حديث ومرح وغبطة .. قربت وجهى من وجهها وعينى من عينها وقرأت فى أعماقهما لواعج صدرها ، أحلامها وأمانيها .. وأحسست ، وأنا قابض على الكأس ، براحتها تلامس يدى ، فضغطت عليها ، وأمسكنا بالكأس معا ، وسرت نشوة لذيذة قوية فى عروقى ، ورفعت يدها عن الكأس ، وقبضت عليها بشدة ، ورأيت السرور يتألق فى جبينها ويشرق على وجهها ، كانت فى حاجة شديدة إلى من يعطف عليها ويرحم مصيرها ، ويعرف آلامها ويخفف عنها أحزانها .. ما أحلى السعادة التى يشعر بها أولئك الذين يحسون ويعرفون أن هناك مخلوقات بشرية تعطف عليهم وتحبهم .. تحبهم يالله ..!! ما أسعد الساعة التى تمر على المرء وهو على يقين من أن هناك إنسانا مثله يجاوبه عطفًا بعطف ، وقلبًا بقلب ، وشعورًا بشعور .. شعرت فى تلك اللحظة أنها انقلبت فتاة أخرى ، وأن روح الشر الخبيثة التى تجرى فى دم المرأة قد رسبت وتخدرت فى أعماقها .. وبدت أمامى هادئة وادعة صافية النفس حالمة ، تتعطش للمستقبل المجهول ، وتتمنى أعذب الأمانى ، وتسبح فى جو من التأملات اللذيذة .. كم مرة امتزجت أنفاسنا ، ونحن نتقارب بالشفاه ونتلامس ، وكم مرة شعرت بعينيها الجميلتين تنفذان إلى أغوار نفسى . وكم مرة تضاغطت أيدينا وتماسكت وتشابكت ونحن نهتز ونرجف من فرط الشعور بالسعادة التى لا تحد ..
ولما هتفت بالساقى لنبرح المكان ونرتاض قليلا خارج المدينة سمعتها تقول بصوت خافت فيه كل ما تملك من عذوبة ورقة :
ـ اسمح لى أن أدفع الكأس التى شربتها وحدى ..
فقطعت عليها حديثها بنظراتى المؤنبة القوية ، وغضت طرفها وفتحت حقيبتها وضربت يدها فيها ، وراعنى أن يدها أخذت ، بعد ثوان قليلة ، ترتعش .. وترتعش رعشات عنيفة مفزعة ، وانقلب وجهها الضاحك الباسم ، فى لحظة ، إلى وجه أصفر أغبر السحنة .. فى ثانية واحدة تغير كل شيء فيها ، كانت شفتاها المتقلصتان تختلجان بشدة وتلوذان بأسنانها .. وقبضة يدها لا تزال تنتفض فى ثنايا الحقيبة ..
ونقدت الساقى وانصرف ، وأمسكت بيدها ، ورأسها لا يزال منكسًا ، فأحسست بجسمها يرتعش كله ، ووضعت يدى تحت ذقنها ورفعت وجهها إلىّ .. فيا أروع ما رأيت ..! رأيت عينيها غارقتين إلى أقصاهما بالدمع .. رأيت أجمل عينين فى الدنيا ترسلان أصفى دمع ..
وقالت بصوت ناعم خافت متقطع :
ـ لم أكن أعرف .. أ .. أ ..
ووضعت يدى على فمها .. كنت أعرف ما ستقوله ، وأشعر وأقدر مركزها ، لقد انجرح كبرياؤها أبلغ جرح .. ولما أمسكت بكلتا يديها وقبضت عليهما بشدة كان جسمها ينتفض كله ..
فكرت فى كبريائها المجروح ، وأدركت لأول مرة فى حياتى قيمة المادة وحقارتها أيضاً .. فكرت فى أن القناطير المقنطرة من الذهب والفضة التى يحبسها الأثرياء عن الضوء لا تساوى دمعة صافية من دموعها .. فكرت فى أن هذه الدنيا بمن فيها ومن عليها لا تستحق دمعة رقراقة من عبراتها ، كنت أود لو أمتلك الدنيا بأسرها لأفديها بأحزانها .. أحسست بجو الحان يأخذ بعقلى .. لقد جرح إحساسها .. يالله ..! لقد رفعت إلى أسمى موضع فى نفسى .. ونهضت وأنهضتها .. وتأبطت ذراعها وخرجنا من الحان نضرب فى الطرقات فى صميم الليل على غير قصد ..
وكانت الليلة من ليالى الشتاء القارة التى لم تألفها القاهرة منذ سنوات ، كانت قاسية البرودة شديدة الريح ، ومع هذا فما أحسسنا بها ولا أعرنا بالنا إليها .. سرنا متلاصقين نسمع صوت نعالنا فى الليل الساكن .. ودقات قلبينا فى أعماق السكون المخيم ، ونرى أنفاسنا المبهورة المتلاحقة وهى تسبق وجهينا ، وشعرت وهى بجانبى بإحساس عجيب غريب ، أحسست بقوة عظيمة تسرى فى جسمى .. انتفخت لها أوداجى وشمخ أنفى ، خلت نفسى بعد أن تدفق الدم فى شرايينى أقوى من الناس جميعًا فرحت أضرب الأرض بقوة ، وأطوح بذراعى فى الهواء بعنف ومرح وفتوة .. وددت لو اعترضنى معترض لأبرهن لها عن قوتى التى لا تحد ، وددت لو اعترضنى إنسان لأضربه الضربة البكر التى ترديه ، وددت لو حملتها على ذراعى وحلقت بها فى السماوات ، فوق المنازل وأعالى الأبنية ، وفوق الأسوجة والمعترضات والسدود ، وفى جو الحدائق وفوق سماء الأنهار ، وأنا أضحك وأقهقه وأغنى وأفيض على الدنيا بأسرها ببعض سعادتى .. كانت سعادتى فى ذلك الحين تكفى لإسعاد المحزونين فى الدنيا بأسرها جمعاء وفناء الآلام والأحزان من البشر .. كانت تكفى لوضع الناس فى صعيد واحد وجعلهم سعداء هانئين ..
فكرت وهى مستريحة بجسمها على جسمى .. وادعة حالمة .. فى هؤلاء الذين يثيرون دفائن هذه المخلوقات الضعيفة ، ويدعونها تنفث السم ، فكرت فى هؤلاء المخنثين الذين يبكون ويركعون أمام المرأة ليبعثوا فى أعماقها الاحتقار والسخط على جنس الرجال جميعًا ..
فكرت فى هؤلاء المرضى الذين ينوحون ويبكون ويموتون أمامها من الخور حاسبين أنهم يستدرون عطفها ، ويستقرون فى قلبها .. وما يبعثون فى نفسها إلا كل ضروب الاشمئزاز ، فكرت فى هؤلاء الذين لا يفهمون المرأة على بساطتها وسطحيتها ويروحون ينسجون حولها الأسرار ، فكرت فى هؤلاء الشعراء المساكين الذين لذعتهم بمثل الجمر وكوتهم بنارها ، وهى لا تملك إلا عذابهم وإيلامهم ، لأنهم لا يستحقون إلا التعذيب والإيلام .. فكرت فى هؤلاء التعساء الذين يشوهون جمال الحب بدموعهم وزفراتهم وتنهداتهم التى لا آخر لها ..
وكنا قد بلغنا جسر إسماعيل فأوغلنا فيه ، ثم اعتمدنا على حواجزه ، وأخذنا نحدق فى الماء الجارى تحتنا ، والطبيعة الناضرة حولنا ، وبعثها منظر السماء والماء .. وجمال الطبيعة السابحة فى غيابات الكرى ، والنخيل السامق على الشط ، والأضواء الراقصة على صفحة الماء ، على أن تتحدث عن آمالها وأحلامها وأمانيها التى ذوت وصوحت وراحت أباديد ..
ولما بدأت تحدثنى عن صدر حياتها وضعت يدى على فمها لتصمت ، لم أكن أحب أن أعرف شيئاً مطلقاً يتصل بماضيها ، كنت لا أود أن أفسد علىّ سعادتى الراهنة .. كنت لا أحب أن أعرف عنها أكثر من أنها مخلوقة وادعة التقت بى عرضاً فى ليلة من الليالى ، واستسلمت بكليتها لى ، بجسمها ونفسها .. فما شأنى وماضيها .. طغت علىّ موجة إنسانية رفعتنى عن الشهوات الشخصية والأنانية ، وجعلتنى إنساناً يعيش لساعته .. يعيش لوقته ..
وأخذت أجول بطرفى فيما حولى ، ثم أحدق فى جسمها الممتلئ الرشيق الفاتن وأسبح فى عينيها النجلاوين الضاحكتين ، وأحس بجاذبية غريبة تجرفنى نحوها ، وتحملنى على أن أنسى الزمان والمكان وأطوقها بذراعى ، وأضمها إلى صدرى ، ووقفت ساهمًا ، مبهور الأنفاس ، شديد ضربات القلب ، وذراعاى تودان لو تضمانها إلى قلبى ، وتضغطانها على جسمى ، وشفتاى تتعطشان إلى شفتيها ، كنت أحب أن أعصر جسمها وأفنى فيه حيوتى وأدفن أحزانى ..
وقالت بصوت مرتعش وقد أدركت بغريزتها ما يجول بخاطرى :
ـ كمال .. اشتد البرد .. هيا ..
فنظرت إليها فى غرابة وقلت :
ـ كيف عرفت إسمى ..!
فقالت باسمة :
ـ قرأته هنا ..
وأشارت إلى جبينى ..
وضغطت على ذراعى وقربت منى .. مشينا على رصيف الجسر حتى تخطيناه وانحدرنا إلى الشط ، وسرنا على العشب الأخضر المطلول ، وكان السكون عميقا شاملا ، والطبيعة هاجعة ناعسة ، وطرف الجيزة الفيحاء يبدو بنخيله وحدائقه وبساتينه ، غائصا فى لجج الظلام ، ولم تكن الليلة مقمرة فاسترحنا إلى الظلام .. وإلى ظل النخيل الممتد على أديم الماء .. ولم تكن سعادتنا مستمدة من الطبيعة الجميلة الضاحكة بل كانت خارجة من أعماق نفسينا .. وجلسنا على العشب الندى ، ورحت أذكر قريتى الحبيبة على النيل وطفولتى وملاعب صباى ، أيام كنت أقضى النهار طوله اصطاد السمك ، وأسبح فى الماء .. رجعت أذكر الليالى الصيفية المقمرة التى كنت أتنزه فيها فى النيل مع لداتى من أبناء أعمامى .. نخرج بزورق صغير كل غروب ساعة الطفل ، ونرسله مع التيار ، ثم نشرع فى التجديف الخفيف اللين ، ونغنى على وقع المجاديف الغناء الريفى الحزين ، حتى يجرفنا التيار ، ويرمينا إلى جزيرة القرية الصغيرة ولما تسمع كلاب الجزيرة الهائجة أصوات المجاديف تتوثب نحونا نابحة ، فيخف إلينا الفلاحون ، ويزجرون الكلاب بالطوب ، ويمسكون الضوارى منها من أعناقها .. ثم يتلقونا بالبشر والترحاب والتهليل .. ونجلس حولهم خارج العرائش نأكل البطيخ ونسمع أحاديثهم وسيرهم وأقاصيصهم الطلية عن عصاباتهم فى الليالى السوداء وهم يسطون على العزب .. يفيضون معنا بفنون الأحاديث حتى يقرأوا على وجوهنا النوم ، فينهض منهم ثلاثة أو أربعة أشداء مفتولون ، ويأخذون ناصية الزورق بحبل طويل يديرون طرفه الآخر على أكتافهم ، ويرسلونه وراء ظهورهم .. ثم يسحبون الزورق .. ويمشون به قرب الشط فى صمت وعناء وسكون ، ونحن خلفهم مستلقون على سطحه ، مستسلمون لأعذب الأحلام ، لا نفكر فى آلامهم ولا نشعر بتعبهم ، ولا نقدر عواطفهم الجميلة النبيلة ، ولا حتى نشكرهم ، وما أحسبهم كانوا فى حاجة إلى شكرنا .. لازلت أراهم وأتصورهم الساعة وهم يشمرون عن سواعدهم ، ويطوقون خصورهم بأطراف ثيابهم ، وينحنون على الماء .. والحبل يغل عنقهم ويدمى ظهورهم ، وأرجلهم تتخبط فى الماء وتغوص فى الوحل ، فإذا أدركهم التعب ، غنوا غناء حزينا يختلط مع خرير الماء المتدفق من السد القريب ، ويستقر فى أعماق قلبى .. هذا المنظر الذليل المستكين سيبقى هنا راسخاً فى أعماق ذهنى إلى الأبد .. هنا عند مركز الباصرة ستبقى هذه الصور حية كما شاهدتها من سنين ..
***
وأخذت علىّ سيل خواطرى وذكرياتى بقولها :
ـ ما الذى تفكر فيه ..؟
فتحولت بوجهى إليها ، وكانت ترقبنى فى تأمل ، وتعجب لشرودى ، وتجهل ما يدور فى ذهنى ، وأمسكت بذراعيها وجذبتها نحوى ووقفت وأنفاسى تمازج أنفاسها ، وصدرى يضطرب مع صدرها ، وعينى سابحة فى نور عينيها .. يالله .. ستمر السنون وتنقضى الأعوام ، وتطوى الحادثات ، وتنمحى الصور وهاتان العينان مستقرتان هنا .. هنا تحت عينى .. تنظران من وراء الحجب إلىّ ، تلحظانى من وراء الغيب المجهول .. إنكما هنا بجوارى تسهران علىّ وأكتب على نوركما هذه الصفحات ، وفى اللحظة التى سينطفئ فيها هذا البريق ، سينطفئ سراج حياتى ..
***
ودعنا جسر إسماعيل ، وما يحيط به من مناظر ومباهج ومتع ، وكنا ننظر إلى الماء الجارى تحتنا ، والطبيعة الناضرة حولنا ، والسماء الباسمة فوقنا ، ونتمنى لو تواتينا الشجاعة لنفنى ، لنفنى معا بعد أن أحسسنا والشعور مشترك ببلوغ الغاية والوصول إلى نهاية .. أحسسنا بأننا وصلنا بمشاعرنا وعواطفنا إلى نهاية ما نحب ونرجو .. كنا نود لو ننحدر إلى جوف اللج ، ونروح مع تياره ، ونغوص فى أعمق أعماق اثباجه ، ويطوينا البلى معًا ، ونحن متلاصقان جسمى على جسمها .. وصدرى على صدرها ، وشفتى على شفتيها ، وأنفاسى تمازج أنفاسها ، ورضابى سابح فى رضابها ، وروحى تخرج مع روحها فى وقت واحد ولحظة واحدة .. لم أكن فى تلك اللحظة آسف على شيء فى الوجود .. الإنسان يعيش فى حياته مرة .. مرة واحدة يشعر فيها بقيمة نفسه ، ويحس بوجوده كإنسان .. ثم بعد ذلك يفنى .. يعيش ميتا حيا ..
وسرنا نقطع شوارع المدينة على مهل ، مسترسلين فى ألذ الأحلام ، غافلين عما حولنا ، ناسين الريح المصفر والبرد الشديد ، حتى قرع سمعنا أنين حاد يشبه العويل ، فوقفنا جازعين ، نسترق السمع ونرهف الحس ، ونمد البصر فى قلب الليل ، وإذا بنا نلمح على ضوء بعض المصابيح ، شبحا أسود ، قابعا تحت جدر بعض الأبنية العالية ، فمشينا نحوه بخطى جفلى ، فلما قربنا منه رأينا امرأة شريدة من طريدات الليل ، على بدنها ثوب أسود مهلهل ضمته على جسمها ، وغطت بأطرافه رأسها ، وتجمعت وتكمشت وألصقت ركبتيها بذقنها ، ودفنت وجهها فى الجدار .. وهى ترتعش وتنتفض من البرد ، وتئن وتنوح ، وتنشج نشيجاً يفطر الأفئدة ويهز المشاعر ..
والتصقت بى الفتاة ، ورفعت عينيها المغرورقتين بالدمع وصمتت ، وبقيت تنظر إلى المرأة بوجه ملتاع وكأنها تود أن تقول :
ـ ألم يمر عليها إنسان ..؟!
وأخذ جسمها بعد ذلك ، يرتجف بشدة ودموعها تتساقط فى حرارة ، فشددت عليها بذراعى وأبعدتها عن هذا المنظر المؤثر بعد أن أدركت ما يجول بخاطرها ، وأخذت أحدثها حتى انصرفت عما تفكر فيه وهدأت وسكنت ، وكنا قد بلغنا المنزل ، فدفعت بابه الحديدى ، واحتوانا الفناء المظلم .. ووقفت عند عتبة السلم وأشرت عليها بأن أحملها على ذراعى لأصعد بها السلم فرفضت .. ثم وافقت .. ولم أدر من أين أتتنى تلك القوة العظيمة التى أعانتنى على حملها دون عناء وجهد ، صعدت بها الدرجات على مهل ، وكنت أقف بين الفنية والفنية لأحدق فى وجهها ، وأملأ عينى من حسنها ، وأرقب شفتيها الورديتين وهما تنهلان من رحيقهما ، واشتهى لو غمرتهما بقبلاتى .. ثم أعود أستأنف ارتقاء الدرج فى تراخ وكسل .. كنت أود أن أطيل إلى أقصى أمد زمن سعادتى ، لم أشعر فى حياتى كلها .. فى سنى أيامى الخوالى ، بمثل هذا الشعور الذى شعرت به فى تلك الليلة ، وهى تطوق عنقى ، وتلصق جسمها بجسمى ، وتضع قلبها على قلبى ، وتسبح بعينيها فى عينى ، لقد أحسست لأول مرة فى حياتى بلذة الحس التى لا تحد ، بالنشوة اللذيذة التى تغمر الجوارح كلها وتفيض على نفس الإنسان وحسه ..
ولما بلغت باب مسكنى أنزلتها فى رفق على الأرض وفتحت الباب ودخلت البهو ، وأشعلت النور ، ووقفت أمامها ألهث .. فوضعت يدها على عاتقى ورمقتنى ، وهى ساكنة الملامح ، بعينين تفيضان حناناً وفتنة .. ثم مشت تستعرض الصور الزيتية المتناثرة على الجدران .. وأدركت بعد السكون الذى طالعها من جوانب البيت أننى أعيش وحدى .. ونقلتُ البصر فيما حولى ، ورجعت أذكر هذا المنزل الذى قضيت فيه جانبًا عظيمًا من حياتى وحيدًا مستفردًا لا يؤنسنى فيه إنسان ، مضيت فيه شطرًا كبيرًا من نهارى وليلى ، وحيدًا منعزلاً ، فى حى هادئ يقرب من حى الموتى ، وشعرت لأول مرة بأنى فى حاجة شديدة إليها ، إلى ابتسامتها ، إلى النور المشرق من عينيها ..
وأمسكت بيمناها وجذبتها إلىّ ، فراعنى أن ظهر راحتها مخضل بالدم .. فحدقت فيها مبهوتًا ، وهى تبتسم فى خفر أحلى ابتسام ، وقربت منى ودار ذراعاها حول عنقى فرفعت يدها الدامية عن عاتقى وقربتها من شفتى ، وأدمت النظر فى سواد عينها وفهمت .. لقد غاصت أظافرى ، وأنا لا أعى فى لحمها .. ووضعت شفتى على يدها وأخذت فى نهم أشرب الدم .. وأحس بلذة وحشية غريبة هزت كيانى ، وكرت بى إلى طبيعتى الأولى .. إلى إنسان الغاب .. وتراخى جسمها واستلانت عضلاتها ، وأطبقت جفنيها ، وحبست أنفاسها ، فحملتها على ذراعى ودخلت بها مخدعى وأضجعتها على السرير ، دون أن أشعل النور ، وطوقت خصرها ، وضغطت على بدنها .. وأنا أهتز وأرجف ، ودفنت رأسى فى حجرها وصدرى يغوص فى جسمها ، وأنا أرتعد وأنتفض وأخاف .. أخاف المستقبل المجهول بظلامه وسحبه ، أخاف أن تفلت من يدى ، وتروح مع الرائحين ، فتذهب وراءها سعادتى وحياتى ..
=====================
نشرت القصة فى كتاب " فندق الدانوب " سنة 1941
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق